الصين في عيون الآخرين
لا شك في أن الصين التي كانت بالأمس البعيد ليست هي الصين اليوم من حيث الإمكانات السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية، فهذه الدولة أثبتت بجدارة أن لها مكاناً مهماً في سلم النظام العالمي، وثمة دول تتحسب من هذا الصعود وتعتقد أن بكين تنافسها وتمثل تهديداً لمصالحها في النظام العالمي مثل الولايات المتحدة الأميركية واليابان.
واشنطن من أكثر الدول تحسساً من توسع النفوذ الصيني في العالم، ولذلك لم تتوقف الأولى منذ سنوات عن فرملة هذا التقدم لتأخير النمو الصيني ووقف المنافسة على قيادة العالم معها.
الحرب التجارية واحدة من الحروب التي شنتها واشنطن للتأثير على اقتصاد التنين الصيني، وهناك حروب خفية كثيرة لمنع بكين من الانتشار العالمي، وكذلك هناك دول تقف مع الولايات المتحدة في مواجهة الصين، كما هو الحال مع اليابان وكوريا الجنوبية وبريطانيا وأستراليا والهند وإن بدرجات مختلفة.
في المقابل يلحظ تصفيق دول كثيرة للصعود الصيني وترحيب شديد بتوسع نفوذها إلى حد إقصاء الولايات المتحدة والسيطرة على النظام العالمي، وهذه الدول إما تربطها علاقات وثيقة مع الصين من المستويات السياسية والتجارية والثقافية، أو أنها تكره واشنطن وترى فيها الشيطان الذي يتحكم بها لمصلحته.
كوريا الشمالية وكوبا وفنزويلا خير مثال على كره واشنطن والرغبة في خبو نجمها وتألق دول أخرى مثل الصين عالمياً، فهذه الدول اكتوت بنار الهيمنة الأميركية، وهناك دول أخرى مهتمة بتنوع النظام العالمي الدولي من نظام أحادي القطبية إلى تجسيد الشراكة بتضافر الجهود والتعاون المشترك مع الدول الكبرى.
وعلى المنتصف من تلك الدول، تجد مثلاً روسيا عالقة بين الترحيب بالصعود الصيني والخوف من تسيدها العالم، علماً أن روسيا خليفة الاتحاد السوفييتي قبل تفككه، وكان طموحه وشغله الشاغل حسم سباق التنافس على قيادة العالم مع الولايات المتحدة، لكن الغلبة كانت للأخيرة.
من الطبيعي أن تخاف روسيا من الصعود الصيني، لأنها تريد أن تشغل مكاناً مهماً في الساحة الدولية، لكنها «منبسطة» أيضاً من التلاسن والحرب التجارية والاقتصادية مع الولايات المتحدة، لأن ذلك يخدمها ويخدم مصالحها حين تزيد المنافسة مع واشنطن التي هي قوية في كل شيء. كما أن سياسة واشنطن تجاه كل من بكين وموسكو فرضت عليهما التقارب أكثر فأكثر.
الصين التي أبهرت العالم بتطور اقتصادها، قد تستمر في تحقيق النمو المطّرد عاماً بعد عام وسط الاستثمارات الكبيرة التي تضخها في العالم، ومن المتوقع أيضاً حسب تقارير صينية أن يبقى هذا النمو مستقراً وسريعاً بشكل نسبي إلى العام 2050.
هذا بالتأكيد لم يأتِ من فراغ، وإنما هو ثمرة سياسة صارمة تستهدف من ورائها بكين تطوير وتحديث أنظمتها الاجتماعية والتعليمية والصناعية والطبية، وإيصال كل صادرتها إلى كل بقاع العالم، وبمجرد النظر في متوسط النمو الذي كانت تحققه في السنوات السابقة، فهذا يؤكد أنها دولة بناء وعمل.
اليوم تدخل الصين بقوة دول العالم الأول بعد أن كانت فيما مضى من دول العالم الثالث، فلم يعد الأمر بالنسبة لها تقليد الصناعات الغربية ومنافستها في صناعة صينية مقلدة ومقبولة الدفع، وإنما باتت تنافس الولايات المتحدة مثلاً في الصناعات الثقيلة والعسكرية وفي الفضاء.
اليوم تقدم بكين مشورتها للعديد من دول العالم في كيفية محاربة فيروس كورونا، وتمد الدول الفقيرة والغنية على حد سواء بالمستلزمات الطبية والخدمية المستعجلة، وترسل لقاحها وتفعل ذلك انطلاقاً من حجمها الكبير في الساحة الدولية، وهي سياسة يقدرها الكثير من الدول، وترى فيها منافسة قوية للصعود إلى سلم النظام العالمي.
مع ذلك فإن الولايات المتحدة تريد للصين أن تفشل في مشروعاتها التنموية وأن تخسر سمعتها في الساحة الدولية، وتفعل المستحيل لإعاقتها عن تنويع حضورها في هذه الساحة، وحاول الرئيس الأميركي المنتهية ولايته قريباً دونالد ترامب عرقلة الصعود الصيني لكنه عجز عن فرملة نموها على الرغم من تدهور الاقتصاد العالمي بسبب «كورونا» وضعف اقتصادات الكثير من الدول بما فيها واشنطن.
كيف سيتعامل الرئيس المنتخب جو بايدن مع الصين بعد مغادرة ترامب؟ هل يلجأ إلى الدبلوماسية الناعمة أم يكرر نفس سياسة خلفه أم يزيد التوتر لعرقلة النمو الصيني؟ وفي المقابل كيف ستتعامل بكين مع الرئيس الأميركي وهل سنستعيد ذكريات الحرب الباردة أيام زمان أم أنها حرب ساخنة بين البلدين؟