لقد انكشفنا وأسقطنا مناعتنا
كلّ ثلاثة أشهر نمر في البلد بمنعطف جديد، وتبدأ الأصوات تصفه بأنه «أصعب وأدق مرحلة في تاريخنا»، ونفتح القواميس لننتقي أوصافاً تليق بالمنعطف الخطر، وننتهي ونعود حيث كنا بعد أن يستنفد كل منا استخدام كامل ذخيرته المتمثلة بمن يؤثر عليهم، ليقولوا كلمة حتى لو لم يكن الأمر يعنيهم، وبالتالي لا ننتج شيئاً مختلفاً بأيّ شكل من الأشكال. وحتى لو صفيت النوايا وأراد من أراد أن ينتج حراكاً، فإنه يصطدم برؤى كانت قبل ثلاثة أشهر تناقش عكس كل البلد؛ لأنه لم يكن يشعر أن تلك المرحلة السابقة كانت منعطفاً حاسماً في حياتنا!
عند المفاصل التاريخية في تاريخ الشعب الفلسطيني، كانت هناك دائماً شخصيات ومؤسسات سياسية اجتماعية أكاديمية تتصدى لكل مرحلة بمسؤولية وأخلاقية ووطنية، كان هناك أدب للحوار وأدبيات للتناقض الثانوي والرئيسي، واحترام لحرية الرأي والتعددية وعدم التعصب.
لقد انكشفنا... لقد انكشفنا... لم تعد لدينا مناعة مجتمعية، لم يعد لدينا من يلتمس للآخر عذراً، وهناك من ينتظر للآخر هفوة، والمصيبة أنهم حتى في هفواتهم يريدون أن يوقعوها في رقبة طرف وما تبقى أطهر من حمام مكة... سبحان الله.
كلكم اجتمعتم لتعالجوا كل القضايا المفصلية من ذات البوابة وبذات الأدوات، وكأن الموضوع ليس كارثياً يهز أساسات مكونات المجتمع ويهدد مناعته ومتانته وبقاءه. اصحوا، الموضوع أبعد بكثير مما تعالجون، الموضوع يطالنا جميعاً دون استثناء؛ لأننا لا نجمع على مفاهيم كنا نظن أننا مجمعون عليها وكانت بالنسبة لنا أبجديات، الحقوا البلد بمسؤولية وطنية واجتماعية.
اليوم الحكومة بكامل مكوناتها أمام السؤال الصعب في ضوء تآكل المجتمع وانقساماته، وتراجع منظومة القيم، وتراجع المشروع الوطني، وانسداد قنوات التأثير على صناعة القرار، ويواجه المجتمع الأهلي، أمام امتحان جديد بعد أن تآكل وسلّم صلاحياته لناطقين استحوذوا عليه وهو في سبات عميق وبات مسرحاً لمن يريد أن يصعد في سلم قد تآكل بشكل أو بآخر، واغتراب النخب المثقفة وانعزالها عن الناس وقضاياهم، والجامعات اكتفت بمهمة التدريس والسلام، وتنامي المناطقية والجهوية على حساب العوامل الجامعة، بات ملحاً إجراء تغييرات عميقة في كل مناحي حياتنا لنلحق بما فاتنا قبل أن نتآكل ونذهب في دمار أوسع وأكبر ونتوه في تيه أكبر مما نحن فيه.
النخب باتت في طريق مسدود سياسياً واجتماعياً وثقافياً وعلمياً، ولم يعد مسعفاً أن نتحدث عن «الرواية الفلسطينية» ولا عن «إنجازات بحكم الإعجاز»، فتلك النخب لم تحقق تنمية ولم تحقق استدامة ولم تعزز منظومة القيم، ولم تنتج كتاباً مدرسياً قادراً على أن ينتج أفراداً قادرين على مواجهة متطلبات المرحلة، كان بيان سياسي في مرحلة نهوض وطني وهدف تحرري واضح يلهب الجماهير. اليوم لم تعد هناك رمزية ولا عنوان، وكل عشرة يستطيعون أن يصنعوا هدفاً فيسبوكياً يحومون حوله ومن حيث لا يدرون يشكلون مناخاً مناسباً لتنامي تقويض الإطار الذي كان يجمعنا.
اليوم بتنا أمام تحديات جديدة لا علاج لها، تنامي الفروق بالدخل بين من هو عاطل عن العمل ومن يتلقى دخلاً فلكياً، وبين عاطل عن العمل أو دخله متقطع غير منتظم، بين من يستطيع أن يمتلك ما شاء ويحدثنا عن قصة نجاح وبين من يكد منذ سنوات، إلا أن غياب الأجر العادل والحماية الاجتماعية والحق بالعلاج وغياب السعر العادل والمنطقي، تلك انقسامات نعيشها ونعرفها ونستوعبها ولا نريد أن نواجهها، ولا نريد أن نتقاطع مع أهداف التنمية المستدامة العالمية 2030، ولا أن نفكر بمكوناتها رغم أن جلها يلامس واقعنا.
نحن بحاجة لأن نكون صادقين مع أنفسنا، وأن نواجه التحديات ونعيش عيشة كريمة ونعيد تعريف ما يجمعنا ونتفق عليه، ونحترم ما نختلف عليه ملتمسين لبعضنا البعض عذراً.