عناق استثنائي، وحار..!!
نحوّل أنظارنا، اليوم، باتجاه المُضيفين، بعد تحليل كيف وضع الصحافي الإسرائيلي بن درور يميني قناع الأبيض على وجهه، في زيارة دبي، بعد «سلام إبراهيم»، ولماذا عاد مفتوناً بمضيفيه. قلنا في معالجات سبقت: إن هويته ملتبسة، وإنه لا يستطيع أن يكون إسرائيلياً كاملاً في إسرائيل نفسها، بل خارجها. وفي سياق كهذا، يبدو الخليج، بالذات، مكاناً مثالياً.
على أي حال، كما كانت الهوية المُلتبسة مدخلاً لتفكيك الديناميات السياسية، والثقافية، والنفسية (إذا شئت) التي فرضت قناع الأبيض، وفضحته، فإن مدخل الهوية المُلتبسة يصلح مدخلاً لتفكيك الحرارة الاستثنائية التي أحاطه بها مضيفوه في دبي. بمعنى آخر، يصعب التفكير في تفسير مُحتمل للحرارة الاستثنائية إذا أسقطنا، ضمن أمور أُخرى، الهويات المُلتبسة للضيف والمُضيفين.
والواقع أن عِناق الإماراتيين الاستثنائي للإسرائيليين يتجلى في وقائع يصعب حصرها. من استيراد منتجات المستوطنات التي يُقيّدها الاتحاد الأوروبي بإجراءات كثيرة، مروراً بالتعاون لتفكيك «الأونروا»، ووصولاً إلى المناورات المشتركة، وبسط الحماية الإسرائيلية، ناهيك، طبعاً، عن البزنس، والاستثمار في النوادي الرياضية، وغيرها.
هذا على مستوى «نخب» السياسة والمال في نظام ملكي مُطلق في كل شيء ما عدا الاسم. أما على مستوى «الأكاديميين والطلاّب» (أذكر هؤلاء على سبيل الفكاهة لأن يميني يُفرط، كلما اقتنص فرصة، في تذكير البشرية بحقيقة أسفاره الكثيرة وزيارته للجامعات، ونقاشه مع «الأكاديميين والطلاّب»)، و»الناس» فإن هؤلاء (كما ذكر هو) لا يبددون الوقت في نقاشات سياسية غير مجدية، وهم «سعداء» و»متسامحون»، ومعجبون بالإسرائيليين على نحو خاص.
وقد أصبحت لدينا، الآن، قائمة طويلة من آيات «الإعجاب». ونكتفي منها، اليوم، بما نشرته الصحافة الإسرائيلية عن موسيقي إماراتي شاب يعزف النشيد القومي الإسرائيلي «هاتيكفا»، ويحلم بعزفه في إسرائيل نفسها. تفتح هذه الواقعة قوساً واسعة للتحليل والتأويل، بقدر ما يتعلّق الأمر بالنشيد وتاريخه، ودلالاته، التي يجهلها الموسيقي الشاب، بالتأكيد. وإن لم يكن الأمر كذلك سنكون أمام حالة مَرضية تماماً. ولنمنحه فائدة الشك، كما يُقال، ولنقل: إنه جاهل بالأمر.
لا يتسع المجال، هنا، لأشياء كهذه الآن. كل ما في الأمر أن «الحالة» المذكورة وسيلة إيضاح مثالية، تماماً، لفهم دلالات وثيقة الصلة بما يُوّلد اللقاء بين هويات ملتبسة من تجليات العناق الاستثنائي الحار. سبق وتكلمنا عن هوية يميني الملتبسة، وكيف أصبحت كاملة، وذات طاقة تمثيلية مُدهشة في دبي، وأن الغرب نفسه، والكثير من جالياته اليهودية، لديهم من التحفّظات على الدولة الإسرائيلية، وهويتها الحصرية ما يكفي لتنغيص طمأنينة ممثليها.
وما يُسهم في تعزيز دلالة هذا كله أن اليهودي الإسرائيلي (سواء صاحب الهوية الكاملة غير الملتبسة، أو الذي لا يجني ثمار كمالها وتمثيلها إلا خارج دولتها، كالأخ يميني) لا يستطيع الاطمئنان، بالمعنى الوجودي، إلى حصانة وسلامة الهوية بين، أو مع، أو قرب، الفلسطينيين أنفسهم، في فلسطين الانتدابية، التي يسيطر عليها من النهر إلى البحر.
وحتى بين، أو مع، أو قرب، مَنْ قبل مِنْ هؤلاء، لأسباب تاريخية وعملية مُعقّدة، التعايش مع الدولة، والانخراط في جهازها البيروقراطي، وفي الجيش أحياناً (كما هو حال البعض في مناطق 48)، لا يمنح هذا «البعض» اليهود الإسرائيليين طمأنينة الانتصار بالمعنى الوجودي والتاريخي. ولنحتكم إلى «هاتيكفا» كوسيلة إيضاح.
فالفلسطينيون من مواطني الدولة الإسرائيلية يرفضون الاعتراف بالنشيد لأنه لا يمثلهم. وبين الليبراليين الإسرائيليين أنفسهم مَنْ يطالب بتعديل النشيد ليصبح أكثر تمثيلاً.
وثمة، في سياق كهذا، ما يستحق أن يُروى. فصالح طريف، مثلاً، الذي خدم في الجيش، والكنيست، وفي صفوف حزب العمل، وأصبح أوّل وزير غير يهودي في تاريخ الدولة الإسرائيلية، رفض في العام 2001 مشاركة اليهود الإسرائيليين في غناء هاتيكفا. وغالب مجادلة، الذي عُيّن وزيراً في العام 2007 رفض ترديد النشيد لأنه كُتب لليهود، كما قال في حينها. وقد فعل الأمر نفسه سليم جبران، في العام 2012، وهو أوّل عربي بين قضاة المحكمة العليا.
لهذه الأمثلة، التي وقعت في وضح النهار، دلالات مختلفة، ويمكن فهمها في سياقات مختلفة، أيضاً، ولكنها ضرورية، ومفيدة، ووثيقة الصلة، بقدر ما تُلقي من ضوء، في تحليلنا لعناق الهوّيات الملتبسة في دبي. فما الذي جعل المُضيفين على هذا القدر من الأريحية؟ فهمنا «مشكلة» يميني، فما هي «مشكلة» المُضيفين؟
ثمة، في هذا الصدد، عوامل مختلفة ومُتداخلة، كما في كل ظاهرة أُخرى، وينبغي فهمها مُجتمعة. وأوّل ما يتبادر إلى الذهن أن ظاهرة هذا العناق الاستثنائي، (كما هي، وبما هي الآن، في ظل «سلام إبراهيم») تخلّقت في ظل ثلاثة عوالم، وتشكّلت من ثلاثة مصادر، دولية وإقليمية وخليجية محلية. الأوّل الظاهرة الترامبية، والثاني انهيار الحواضر، والثالث صعود الخليج في زمن العولمة. أما القاسم المشترك بين هذه العوالم، والمصادر، فيمكن اختزاله في «كل شيء ممكن، وكل شيء مُباح». العبارة التي صاغها الإسباني أورتيغا غاسيت ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية، ولكن مع تحوير طفيف.
فقد صاغ غاسيت عبارته في معرض التحذير من «صعود الجماهير»، التي توقّع أن تقود أوروبا إلى الدمار. وإذا كان ثمة من غواية خاصة في تركيز الأنظار على صعود الإسلام السياسي كترجمة عربية وإسلامية لصعود «الجماهير» الأوروبية بعد الثورة الصناعية (بمنطق غاسيت)، فأعتقد أن اللافت للنظر أكثر في حالتنا هو الثورة المضادة، خاصة بعد الربيع العربي، التي يتجلى فيها منطق «كل شيء ممكن، وكل شيء مُباح» بطريقة تثير الذعر، ولعل فيها ما يفسر العناق الاستثنائي الحار، أيضاً. فاصل ونواصل.