عن إسرائيل والمحكمة الجنائية الدولية
قرار المحكمة الجنائية الدولية بحق الولاية على التحقيق في جرائم حرب تم ارتكابها في أراضي السلطة الوطنية في الضفة والقدس وغزة، أصاب دولة الاحتلال بحالة «هلع».
تعبيرات حالة الهلع هذه أكثر من أن تحصى، أو أن تحصر في دائرة معينة، بدءاً من رئيس الوزراء نتنياهو، إلى جيش الاحتلال وأجهزة الأمن، وصولاً إلى القوى السياسية والحزبية وغيرها. والقرار فرض ما يمكن اعتباره حالة استنفار تشمل كل مكونات دولة الاحتلال.
أما تفسير حالة الهلع، فهو بالدرجة الأولى والأساس أن دولة الاحتلال وقادتها وأجهزتها هم أكثر من يعرف حجم الجرائم التي ارتكبوها ضد الإنسانية. وتعرف معها أيضاً ضخامة عدد المسؤولين فيها من مدنيين وعسكريين وأمنيين المتورطين والملطخة أيديهم بدماء ضحايا تلك الجرائم. وتعرف العدد الكبير منهم الذين يمكن استدعاؤهم للتحقيق أمام المحكمة الدولية، ويصبح مطلوباً تسليمه لمحكمة الجنايات من كل دولة عضوة فيها. وتعرف في محصلة كل ذلك، أن المحاكمة ستشكل فضيحة لدولتها الاحتلالية وللصورة المخادعة التي حرصت وسعت طوال وجودها لتقديمها إلى العالم. وأنها ستدخلها بالمقابل في مشاكل مع عديد من دول العالم، بالذات تلك التي تتفق مع قرار المحكمة ومستعدة للتعاون معها في تسليمها من تُقرر استدعاءهم. وأن المحكمة ستسهم بشكل مؤثر في إعادة طرح صورة «إسرائيل» كدولة احتلال تستمر في السيطرة على وإدارة أراضٍ ما زال المجتمع الدولي وهيئاته يعتبرونها أراضي محتلة. وأنها تستمر بالقيام بأعمال لا إنسانية من قمع واضطهاد وقتل ضد سكانها وأصحابها الأصليين؛ لأن دولة الاحتلال أكثر من يعرف كل ذلك وتدرك تبعاته، تكون حالة الاستنفار العامة التي تعيشها، ويأتي تحذيرها لمئات من مسؤوليها وضباطها بضرورة الحسبة الدقيقة والاحتياطات القصوى لتحركاتهم، بالذات في الخارج.
ولأنها كذلك، يكون استنفار رئيس الوزراء «نتنياهو» ضد المحكمة، واتهامه لها بأنها «أثبتت مرة أخرى أنها هيئة سياسية وليست مؤسسة قضائية.» ويصف قرارها بأنه معاد للسامية.
ولأنها كذلك أيضاً، تأتي حالة الاستنفار العامة لكل أجهزة دولة الاحتلال، ويأتي تعيين جيشها لضابط بأعلى رتبة (فريق أول) على رأس فريق من القانونيين للدفاع عن جنوده.
كما يأتي كذلك، استنفارها لأصدقائها من الدول، وطلبها منهم أن يقفوا معها ضد محكمة الجنايات الدولية وقرارها المعني، وليقوموا بالضغط على «بنسودا» المدعية العامة للمحكمة، لعدم المضي قدماً في ترجمة القرار وتوجيه استدعاءات. الاستجابة الأبرز من الأصدقاء لطلبها جاءت من الولايات المتحدة الأميركية. فقد عبرت إدارة الرئيس الأميركي بايدن عن «مخاوف جدية» مما اعتبرته «ادعاء» المحكمة الجنائية الدولية أن ولايتها تسمح لها بالنظر في قضايا بالضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة. إضافة إلى تشكيك الناطق باسم وزارة الخارجية الأميركية في أهلية الفلسطينيين للحصول على العضوية كدولة، أو المشاركة كدولة في المنظمات والكيانات الدولية والمؤتمرات، بما في ذلك المحكمة الجنائية الدولية. هذا الموقف يفرمل اندفاعة التفاؤل العالية بالرئاسة الأميركية الجديدة التي تسود الأوساط السياسية الفلسطينية والعربية، ويعيدها إلى مؤشرات واحتمالات أكثر واقعية، بالذات عندما يتعلق الأمر بدولة الاحتلال. ألمانيا أيضاً استجابت لطلب دولة الاحتلال، وأعلنت عدم قبولها بقرار المحكمة الدولية.
لا بد من التنويه إلى أن صدور القرار جاء أولاً نتيجة للجهد السياسي الفلسطيني المتواصل في تكامل بين العمل الدبلوماسي والعمل القانوني والمجتمعي. وهو ما يستوجب التثمين والتقدير. ودون إغفال أهمية ودور دعم وإسناد الجهد العربي في المستوى الدولي ومحافله.
إن قرار المحكمة يتزامن في توقيت فيه تشهد مكونات النضال الوطني الفلسطيني الشعبية والسياسية درجة عالية من التوافق والانسجام، عنوانها الأبرز الاتفاق على إجراء الانتخابات العامة التشريعية والرئاسية وللمجلس الوطني. وتفتح الأفق للخروج من حالة الانقسام واستعادة الوحدة الوطنية كاملة وشاملة لكل المستويات. وأنه يأتي أيضاً في وقت يتأكد فيه توافق عام عميق ومبشر بين الدول العربية. ويأتي معه توافق تام على أساسيات دعم نضال ومطالب الشعب الفلسطيني، وفي المركز منها قيام دولته الوطنية المستقلة القابلة للحياة على حدود 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، إضافة إلى تأكيد التمسك بمبادرة السلام العربية. وقد جاء التعبير الواضح على كل ذلك في البيان الذي صدر بالإجماع عن اجتماع وزراء الخارجية العرب في الأيام القليلة الماضية.
التوافقان الفلسطيني والعربي يسمحان بالتفاؤل أن يجري العمل على أفضل وأسرع استثمار لقرار المحكمة الجنائية الدولية بشكل متكامل في الجهود وفي الإمكانات.