قرار المحكمة الجنائية الدولية ،،،، مدعاة الخوف وبداية الأمل !!
بداية تم إنشاء محكمة الجنايات الدولية في لاهاي بهولندا عام 1998 لكنها ظهرت بصفة قانونية في العام 2002، وهي تعتبر بموجب نظامها الأساسي أول محكمة قادرة على محاكمة الأفراد المتهمين بجرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الاعتداء، ومن المهم الإشارة إلى انها هيئة دولية مستقلة ولا تنتمي إلى منظمة الأمم المتحدة، وتعمل هذه المحكمة على إتمام الأجهزة القضائية الموجودة، فهي لا تستطيع أن تقوم بدورها القضائي ما لم تبد المحاكم الوطنية رغبتها أو كانت غير قادرة على التحقيق أو الادعاء ضد تلك القضايا، فالغرض من المحكمة أن تكون محكمة ملاذ أخير، فتحقق وتحاكم في حالة فشل المحاكم الوطنية في القيام بذلك.
وتختص المحكمة حسب ميثاق روما بأربع جرائم وهي الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وجرائم العدوان، ولكن من المهم الإشارة إلى أنه يقع ضمن إطار هذه الجرائم حوالي سبعون جريمة ومنها خمسون جريمة أو اكثر تعتبر جريمة حرب، ترتكب اسرائيل منها أربعون جريمة على الأقل في الضفة الغربية بما فيها قطاع غزة والقدس الشرقية، كالتهجير والتدمير ومصادرة الأراضي والإحلال الاستيطاني ومعاملة الأسرى في السجون وهدم البيوت والهجوم العسكري الإسرائيلي على قطاع غزة الذي اطلقت عليه دولة الاحتلال "عملية الجرف الصامد" وكذلك استخدام القوة ضد المتظاهرين الفلسطينيين في قطاع غزة ضمن فعاليات مسيرات العودة الكبرى وعمليات القهر والإذلال اليومية للفلسطينين والتي تعتبر جميعها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.
وفي يوم وصفه الفلسطينيون بالتاريخي واعتبروه انتصارا للعدالة وإنصافا للضحايا وبعد خمس سنوات من المساعي الفلسطينية والمؤسسات الحقوقية، أصدر قضاة المحكمة الجنائية الدولية في 5 فبراير/شباط 2021 قرارا بالإغلبية يقضي بأن المحكمة لها ولاية قضائية على جرائم حرب أو فظائع ارتكبت في الأراضي الفلسطينية مما يفتح المجال أمام تحقيق محتمل، وذلك رغم اعتراض اسرائيل وبعض حلفاؤها الغربيين التي ادانت قرار المحكمة على لسان بنيامين نتانياهو وقالت بان المحكمة اثبتت مرة اخرى بانها هيئة سياسية وليست مؤسسة قضائية ،وان قرار المحكمة يقوض حق الانظمة الديمقراطية في الدفاع عن نفسها في وجه الارهاب،وهناك قلق كبير في اسرائيل من قرار المحكمة الجنائية واي تحقيق سيترتب عليه سيكون تأثيره مرعبا على جيش الاحتلال ،فقرار المحكمة هو مدعاة خوف للاسرائيليين وبداية امل للفلسطينين، وتجدر الإشارة إلى أنه لم يكن لزاما على المدعية العامة أن تقوم بالسعي وراء هذا القرار، لإنها تتمتع بالصلاحية لفتح تحقيق رسمي دون السعي للحصول على هذا القرار وموافقة القضاة إلا انها قد سعت للحصول على هذا القرار للتأكيد على ولاية المحكمة وحتى لا تكون ملامة.
وتكمن أهمية هذا القرار أنه يمهد الطريق نحو فتح تحقيق في جرائم الاحتلال في الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وقطاع غزة، وتكمن اهميته كذلك أنه سوف يتم كشف النظام الدولي في أنه هل هو مع العدالة أم مع الإجرام وهل سيطبق القانون الدولي ويتم احترامه؟!.
ويضع قرار المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية الفلسطينين امام عدة احتمالات تتطلب جميعها العمل الجاد للمرحلة اللاحقة والبناء علي القرار،فمن الممكن ان تنجح المحكمة في البدء بالتحقيقي ،ويتطلب هذا الامر استغلال حشد الدعم الدولي للشعب الفلسطيني على اساس ارتكاب اسرائيل لجرائم حرب بحق مواطني دولة فلسطين،ولكن قد تعمد اسرائيل الى سحب البساط من تحت المحكمة الجنائية الدولية عبر اجراء محاكمات صورية تدعي من خلالها الشروع بمحاكمة قادة وضباط في جيش الاحتلال،اذ يعتبر قضاء المحكمة الجناية الدولية في هذه الحالة هو قضاء مكمل للقضاء الوطني،حيث لا يمكن للمحكمة الجنائية الدولية محاكمة اشخاص تم محاكمتهم في بلادهم،وبذلك تجرد اسرائيل المحكمة من ولايتها القضائية،كما انه يمكن تعطيل عمل المحكمة من خلال الضغوط السياسية او مجلس الامن،حيث خول نظام روما مجلس الامن دورا سلبيا يستطيع من خلاله ان يشل عمل المحكمة ويقرر تأجيل التحقيق لمدة 12 شهر قابلة للتمديد،وهذا ما تعول عليه اسرائيل والولايات المتحدة الامريكية.
فهل تسارع المحكمة فعلا الى فتح تحقيق رسمي قبل انتهاء ولاية مدعيتها العامة في يونيو/حزيران المقبل أو قبل ذلك أم أن الضغوط الإسرائيلية والغربية على المحكمة ستعيقها عن المضي قدما، وهل سوف يتحرر القانون الدولي من القيود السياسية ويأخذ مجراه في الإراضي الفلسطينية، وهل سيواجه وصولها للضفة الغربية وغزة عقبات لوجستية، وهل سيتم استغلال هذه الفرصة لرفع الحصار عن قطاع غزة ووقف الاستيطان، وهل ستعمل المدعية العامة فوتو بنسودا شيئا الآن أم سيتم انتظار خلفها، وهل ستسلك خليفتها مسارا مختلفا أم سيتم متابعة التحقيق؟ وهل سوف يتم تسيس الموضوع رغم قانونيته؟ وهل سيتم احترام القانون الدولي ونظام المسائلة، وهل الدول الإوروبية ستتجه إلى تنفيذ قرارات المحكمة من توقيف واعتقالات، وهل ستستغل اسرائيل الثغرات القانونية في المحكمة لعرقلة الإجراءات، وتجدر الإشارة إلى أن كل من الولايات المتحدة واسرائيل قد وقعتا على نظامها الأساسي عام 2000 لكنهما قد سحبتا توقيعهما بعد ذلك بعامين وبدون تصديقهما على قانون المحكمة فإنهما لن تكونا مقيدتين بأي التزامات اتجاهها، كما تدعي اسرائيل أن المحكمة لا تملك الولاية القضائية الإقليمية لإن فلسطين لا يمكن اعتبارها دولة، بينما رأى قضاة المحكمة بأن فلسطين تعد دولة ولذلك تنطبق اتفاقية روما على جرائم نفذت فيها... وهل سيتم تخطي العقبات السياسية والقانونية واللوجستية والمالية والإدارية، وهل سيتم استخدام مجلس الأمن الدولي لتقييد عمل المحكمة؟ حيث ان المادة السادسة عشر من النظام الأساسي للمحكمة أعطت صلاحيات واسعة تسمح باتخاذ قرار يوصي بمقتضاه بتعليق او تجميد اجراءات التحقيق او المقاضاة لمدة سنة قابلة للتجديد أو حتى تأجيل المحاكمة وذلك في أول مرحلة من مراحل التحقيق وتكون محكمة الجنايات ملزمة بقبول هذا القرار والتقيد فيه.. وهل سيتم توظيف شعار معادية السامية لعرقلة عمل المحكمة وفتح التحقيق؟ وهل سيتم فرض عقوبات من قبل الكونغرس الامريكي مع اي شخص يتعامل مع المحكمة أو حتى فرض عقوبات على المحكمة ذاتها.. وأخيرا هل ستكون قرارات المحكمة حبرا على ورق؟!
في النهاية نأمل أن تمضي المحكمة في تفعيل القرار وإخراجه إلى حيز التنفيذ فإنها تكون بذلك قد خطت خطوة هامة إلى الأمام في مكافحة الإفلات من العقاب وإنهاء الحصانة الإسرائيلية التي عانى منها الفلسطينيون لإكثر من سبعين عاما، وأن تتبع القيادة الفلسطينية هذا المسار وتتخلى عن أية حوافز في التخلي عنه، وأن يتم العمل على تشكيل لجان لتوثيق جرائم الاحتلال ومن ثم دراستها قانونيا وأن يتم رفع الدعاوى لدى المحكمة الجنائية الدولية.