تطبيع الاستثناء..!!
صدى نيوز - تكلمنا في مقالة سبقت عن ثلاث منظومات سياسية وأيديولوجية تُسهم أكثر من غيرها في خراب العالم. وأكتفي، هنا، والآن، بالكلام عن العربانية منها. هذا تعبير فضفاض، بطبيعة الحال، يضم الهوامش الحضرية والحضارية للعالم العربي، والتي تصعد الآن بعد انهيار المراكز الحضرية والحضارية. وينبغي التذكير، للمرّة الألف، أن ثنائية المركز والهامش خلدونية، في الأصل، لم أخترعها، وإن كنت مفتوناً بها، وتُستخدم، هنا، كإطار مفهومي للتحليل. ولنبدأ، قبل المرافعة الرئيسة في هذه المعالجة، باستدراكَين:
الأوّل، العالم كبير، طبعاً، والمنظومة العربانية محدودة المكان والمكانة مقارنة بما في العالم من حيتان. ولكن علاقتها الخاصة بالقوتين الأميركية والإسرائيلية تمنحها طاقة تأثير استثنائية، خاصة في إقليمها. وتستمد طاقة إضافية، بحكم ما لديها من موارد، من الجانب الوحشي، فعلاً، لليبرالية الجديدة.
وفي السياق نفسه، تتجلى أنظمتها السياسية، في زمن العولمة، لا كدرنات جيولوجية من القرون الوسطى، بل كمكوّن طبيعي في عالم صعدت فيه استثناءات الشعبويات، والتمركزات القومية والعرقية الجديدة، بما يحرر ما يتجلى فيها من استثناء من شبهة الشذوذ عن قاعدة عامة. وأخيراً، يمكّنها كل ما تقدّم، معطوفاً على طفرة تكنولوجية غير مسبوقة، في التاريخ، من خلق عوالم افتراضية بديلة، والتشكيك حتى في ضرورة أن تكون ثمّة حقيقة، أو مرجعية، أو ذاكرة.
والثاني، على خلفية كهذه، يبدو الكلام عن معنى الإسهام في خراب العالم مفهوماً بشكل أفضل. ومع ذلك لم ننته، بعد. فنحن نحتاج لاستدعاء فكرة أن كل ما ابتكره الإنسان، وما مر عليه، وما حلم به، وما سيمر عليه، ويبتكره، ويحلم به، يتجلى بوصفه حكاية، سردية، (narrative) سمّها ما شئت، سواء تعلّق الأمر بجلجامش وعشبه الخلود، أو الحظر النفطي في حرب أكتوبر 1973، الذي كان شاه إيران، والرئيس الجزائري هواري بومدين، قوته الدافعة (لأسباب مختلفة). ولا ذكر للمذكورَين، طبعاً، في السائد من التواريخ.
والقصد أن ما نعرف عن شيء ما، ليس بالضرورة هو الشيء نفسه، بل ما شاع عنه. وهذا ما تبقى منه بقايا أركيولوجية في اللغة، أحياناً. وقد ينقلب إلى عكس ما كان عليه. فالرومانسية كانت تعني، قبل قرون قليلة، الانحلال والتهتك، ولو وصفت شخصاً بالرومانسية في حينها لوقعت في ورطة كبيرة.
وها قد أصبحنا، بعد هذين الاستدراكَين في وضع أفضل لتشخيص إسهام القوّة العربانية في تخريب العالم، والذي نكتفي منه بالكلام عن العالم العربي، وعن حرب تدور بين روايات وعليها. ثمة رواية أنجبها التنوير العربي، منذ أواسط القرن التاسع عشر، وصعود القومية، وحروب الكفاح ضد الكولونيالية، وآلام وآمال إنشاء الدولة القومية الحديثة. هذه رواية المراكز الحضرية والحضارية، وريثة حضارات، وإمبراطوريات، عمّرت على مدار آلاف مؤلفة من السنين.
هذه الرواية، ودون الدخول في تفاصيلها، في أسوأ حالاتها الآن. ولا تملك الكثير من منصّات ومرافعات الدفاع في وجه الهجوم الإعلامي، والسياسي، والأيديولوجي، للرواية العربانية النقيضة، والكثير من مرافعاتها التقليدية تتجلى كعذر أقبح من ذنب. فصعود القومية العربية أنجب دكتاتوريات في كل مكان انتصرت فيه، والجمهورية ابنة التنوير انتهت بإنشاء سلالات حاكمة جديدة لضباط وانقلابين سابقين، بعضها نجح، والبعض الآخر عاجله القدر بطعنة "غادرة"، والكفاح ضد الكولونيالية انتهى في حالات بعينها بالترحّم على زمن مضى، ناهيك عن استقلالات أصبحت شكلية فعلاً، وأنظمة أقرب إلى المافيا منها إلى النظام السياسي، وأين؟ في مراكز كانت رائدة في مشاريع الاستقلال والتحديث والتنوير.
يمكن تفسير هذا كله بطريقة موضوعية. ولكن الصراع بين الروايات، وعليها، لا يحدث في الواقع على طريقة المناظرات الأكاديمية. ولستُ، هنا، في معرض تشخيص الرواية العربانية بشكل موسّع، بل الإشارة إلى وتشخيص وتعيين دفيئتها والحاضنة التي أنجبتها بكلمة واحدة: الكولونيالية. وتشخيص وتعيين رأس حربتها، الأيديولوجية، ومرافعتها السياسية الرئيسة في عبارة واحدة: السياسة أخطر من أن تترك لعامّة الناس.
كانت الرواية المذكورة في أسوأ حالاتها، بداية من النصف الثاني من القرن العشرين، وقد عانت من الخوف والحرج، وإحساس دائم بالحصار، ومارست التقيّة بقدر ما استطاعت، بل وغنّت أحياناً "أمجاد يا عرب أمجاد" حتى حرب الخليج الثانية، وتناسب صعودها، على مدار ثلاثة عقود لاحقة، مع تنامي القوّة المالية لأنظمتها السياسية، وانهيار الحواضر، وصعود القوى الإقليمية الجديدة الإسرائيلية والتركية والإيرانية، خاصة في العشرية الثانية من هذا القرن.
ومع الاعتراف بحقيقة أن الرواية المذكورة لن تنجو، مطلقاً، من الإحساس بالهشاشة والقلق الوجودي، إلا أن هذا لن يحد من غواية التصرّف بوقاحة من وقت إلى آخر (كما يحدث الآن)، ومن وضع الأوراق على الطاولة مكشوفة، بلا خجل أو وجل: لا قيمة لكل ميراث التنوير، وضرورة تحرير استثناء درنة جيولوجية من القرون الوسطى (لا أحزاب، لا برلمان، لا معارضة، لا دستور، لا انتخابات، لا حق في المواطنة والمساواة والاختلاف، ولا ما يحزنون) لا من شبهة الشذوذ وحسب، بل والثناء عليه، وعليها.
وبهذا المعنى، فإن كلمة السر في تخريب العالم العربي هي تطبيع الاستثناء، بالقوّة ودفتر الشيكات وما توفّر من مرافعات "خبراء" الدعاية والتسويق في شركات عالمية فعلاً، وتتقاضى ملايين الدولارات، فعلاً، أو بالرهان على تلك النظرة في عيني ونستون سميث الدامعتين، وعبارة ترتسم على شفتيه إذ يرنو إلى صورة على الحائط: أنا أحب الأخ الأكبر. فعلاً.