انا اولاً.. و رفاهية البقاء..!
مقالات

انا اولاً.. و رفاهية البقاء..!

على خيط رفيع يتأرجح العالم بعد مرورعام على جائحة ضربت فأوجعت وما تزال ...كلٌ يلتزم بخفضها، لكنها في كل مكان، معها تستمر الحياه عرفناها وباءً ثم ما لبثت أن أصبحت جائحة بفعل انتشارها المفزع بتكلفتها الإنسانية التي تقدر بمائة وعشرون مليون مصاب، وبوفاة فاقت المليونين ونصف المليون انسان، بموازاتها دفعت الدول أثماناً أخرى بشلِّها الإقتصادات، فبدت الدول وهي تبحث عن حلول لواقعها المأزوم كما لو أنها تستنسخ نموذجاً رأسمالي، واضعاً العالم أمام إختبار أخلاقي  للبشرية جمعاء،  قد يحدد مصيرها الوجودي الناجم عن تغييب الإعتبارات الأخلاقيه والإنسانية وعدم الإكتراث بحق الانسان في الحياة...رأسمالية قسّمت العالم ما بين أقلية غنية تتسابق لتحصين نفسها من تبعاته المرهقة، لا تكترث لحاجات الدول الأفقر التي تئن تحت رحمة الوباء،  تقف بانتظار ما سيجود عليهم سادة القوم وكرام الأغنياء حتى باتت الخشية من أن يصبح تراكم أعداد الوفيات آخر هم تنظر إليه حكومات تلك الدول، بعدما أصبح جوهر الأخلاق الإنسانية ضحية الأزمات والصراعات، واضعة حياة الملايين منهم في قلب العاصفة وعلى المحك.

 فوفق مبدأ "قومية اللقاح " او بتعبير أدق "انا اولاً " يسير العالم و تحديداً الغرب منه،  بسياسته الخارجية وبخطىً ثابتة على درب النظام الرأسمالي المتوحش،  فاستغل الفيروس بعضاً من تلك الدول وراح يمعن في إظهار حقيقة ما تروج له من إنسانية زائفة حملتها ذاكرة كل من تابعها وعايشها في بدايتها،  بقرصنتها للكمامات والمستلزمات الطبية،  وباحتكارها  للقاحات بل وبالتضحية بالفئة الهشّة الغير منتجة والتي  اعتبرتها ثقلاً على كاهل الموازنات، مخصصة العلاجات للفئات المنتجة ذوات الدخل المؤثر والحاضر في المجتمع،  منتهكة بذلك إلتزاماتها بحقوق الإنسان، باعتبارها الرعاية الصحية ترفاً لمن لا يستطيع اليه سبيلاً...وكأن الوباء من بين حسناته كما جاء لتخفيف عبء التلوث عن الارض جاء ليعرّي سياسات دول وحكومات وفاعلية أنظمة  صحية هنا وهناك... حتى الخلاص منه كان عرضة للإستغلال وتم عرقلته،  فلم يجد سبيله بيسرإلى الدول الفقيرة.

فوسط مشهد يحكمه البقاء للأقوى، تقف البشريه على حافة مرحلة مفصلية صعبة وفوضى تديرها العنصرية والمصلحة الذاتية، ففي الوقت الذي لا يزال الملايين من البشر ممن لا يملكون رفاهية البقاء في المنازل يصارعون في سبيل الحصول على لقمة العيش والتشبث بالحياة بكرامة، كان هناك من هو على استعداد لمقايضة الحقوق والحريات الأساسية وحياة الناس، بتركز الثروة في يد الأثرياء، مما عمّق من فجوة عدم المساواة بيبن الدول، وقد لا يكون من المبالغ فيه إن قلت في داخل الدولة الواحدة.
فعلى قاعدة الإقتدار المالي والنفوذ السياسي يتم رسم الحدود والمسافات بين الدول وفرزها للحصول على اللقاحات،  فالطبقية والعرق والتواجد الجغرافي هي من باتت تحدد فرصتنا في النجاة... حتى بات تعبير غطرسة القوة هي التعبير الأكثر صدقاً على السياسة الخارجية باستحواذ الدول الكبرى على اللقاحات غير مكترثة لمصيرالملايين من فقراء الدول النامية ممن هم في حساباتها ضاحية مهملة من ضواحيها،   خصوصاً تلك الفئة  الأكثر هشاشة من لاجئين وعمال ومهاجربن،  والذين يشكلون شريحة لا يمكن التغاضي عنها او تهميشها،  فباتوا ينتظرون في عجز ما قد يفيض عن حاجة الأغنياء حتى بدا لهؤلاء أن  الظفر به رحلة شاقّة وحلم صعب المنال، وان كتب لهم الحصول عليه فهم بالتأكيد ليسوا من المحظوظين الذين سيتم تطعيمهم بأفضل لقاح تم صنعه، اوالأكثر كفاءة في ظل نظام صحي يخضع لحسابات المال أكثر من سلامة البشر، وهذا ظهر جلياً بسيطرة عشرة دول كبرى على خمسة وسبعون بالمئة من جميع اللقاحات، في حين لم تتلقى أكثر من ثلاثين دولة جرعة واحدة باستثناء العينات التي يتم نثرها هنا وهناك  لذر الرماد في العيون، إلا انها في حقيقة الأمر يتم إرسالها لاستغلال الشعوب  كفئران تجارب،  والتي غالباً تتم دون علمهم وبالتعاون مع انظمة حكوماتهم التي لا تعبء  بحياة مواطنيها وتستهين بالخطر الداهم الذي تسببه الجرعات المصنعه على عجل،  والمضرة بالصحة على المدى البعيد، لدرجة ان بعضاً من الأنظمة التي لديها الإمكانات لا تبادر بشراء اللقاحات، تاركة مواطنيها  في أَتون معركة طالت تداعياتها الجميع لمواجهة مصيرهم المحتوم بانتظار لحين وصول المعونات.
  وهذا بدوره يصب لصالح شركات اللّقاحات العالمية التي تسعى لرصد آثارها الجانبية ومدى فاعليتها لتلاحقها اتّهامات باحتكار السوق وتغليب المصلحة الذاتية على الانسانية منها، مما أماط اللِّثام عن الحقيقة التي تخوّف منها الكثيرون ....فالفقراء في مأزق بعد أن قلّت حيلتهم في مواجهة الوباء والأغنياء يتعافون،  ناهيك عن احتكار العديد من دول الاتّحاد الأوروبي للقاحات بفرضها القيود على تصديرها الى خارج الأتّحاد حتى تضمن حاجاتها  أولاً، واحتجاز الولايات المتحدة  لأكثر من مليار جرعة،  وعدم تقاسمها  لتلك الجرعات مع شعوب الدول الأخرى إلا في حال أصبح لديها فائض عن حاجتها.

فلربما لا يخفى على أحد أن مسألة عدالة التوزيع باتت قراراً مصيرياَ شأنه في ذلك شأن القضايا المصيرية  التي لا يملك حيالها من يتعرض لها حولاً او قوة، خصوصاً تلك التي تتعلق بحدود الحياة، تماماً كالقتل الرحيم والإجهاض، فكلاهما لا يملكان حق تقرير مصيرهم في الحياة، كما انها تخضع  لعدة اعتبارات وأولويات، وواقع تحكمه معادلات وحسابات، تجعل هناك من هو غير مؤهل للحصول على تلك الأولوية وهو ما يشي بأن كبار العالم وسادته غير مستوعبين لحرج المرحلة التي لا تحتمل اللامبالاة في ظل جائحة ما زالت تهدد وتتوعد بتحورها المستمر،  فالمرحلة الراهنة لا تحتمل تفكير كل دولة بالسيطرة على الجائحة داخل حدودها، وتتجاهل ما هو وراء ذلك،  خصوصاً في مناطق الحروب والنزاعات حيث أن آخر ما ينتظره هؤلاء أن يضرب كورونا أعتاب دولهم، وهم الذين من فتكت بهم المجاعة التي تسللت الى موائدهم،  والاوبئة التي فتكت بهم وما تزال قبل دخول  كورونا الى حياتهم، حتى أصبح للزائر ثقيل الظل أثراً مضاعفاً عليهم،  بعد أن وقف وباءً جديداً يضاف على قائمة الأوبئة التي تتلاعب بحياة الناس هناك، فبدت وطأته أشد إيلاماً على فقراء الكرة الارضية، فلا إنتاج عندهم ليكفيهم ولا مال لديهم يشترون ما يتيسر لهم لسد الرمق، حتى باتت المجاعة تتربص بأكثر

من مائة وخمسون مليون إنسان حول العالم، سببها الحروب والاوبئة التي أنهكت إقتصادات تلك الدول وهددتها بالشلل التام..!  
انه اختبار اخلاقي للعالم بأكمله دون استثناء.. والنجاح فيه يتطلب العدالة والمساواة في الحصول عليه  وتوزيعه... فإما ذاك وإما أن يطول عمرالجائحة وتستمر في الإنتشار، لا سيما  في الدول الأقل قدرة على تأمينه، عندها سيكون فاعلية اللّقاح بحد ذاته مهدَّد هو الآخر بالفشل،  فحتماً لن يكون أحد منا بأمان، ما لم يكن الجميع على مستوى العالم بأمن من هذا الوباء، فالجائحة لا حدود لها ولا مكان وليس من ثقافتها وأخلاقها الإستئذان ...!

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.