ما بعد الانتخابات التشريعية.. والقفز نحو المجهول !
يظهر جليا أن الشعب الفلسطيني - شعب عنقاء خضراء- قد لجأ إلى خيار الانتخابات بعد استنفاذ الخيارات في المصالحة والحوار الوطني الذي كان شبيها بحوار الطرشان، فكانت الانتخابات هي الملاذ الأخير، فجاءت في ظروف استثنائية ولم تأتي ضمن السياق الطبيعي الذي يفترض توفير أرضية ملائمة للانتخابات من خلال معالجة آثار الانقسام والاتفاق على رؤية وطنية جامعة، ومن ثم الانطلاق نحو سباق الانتخابات المحموم، لذلك فالكثير من المتابعين والمراقبين يصفونها بأنها كمن يضع العربة أمام الحصان، ويشككون في قدرتها على معالجة القضايا الشائكة التي تراكمت عبر سنوات الانقسام العجاف.
ولكن لا بد من القول بأنه ورغم أهمية تجاوب الفصائل الفلسطينية جميعها مع نداء الاستغاثة الأخير للشعب الفلسطيني الذي ينشد تجسيد الديمقراطية عبر رغبته في ممارسة حقه الدستوري في الانتخابات التشريعية كحق منصوص عليه في متن القانون الأساسي الفلسطيني، إلا أن هذه الاستجابة بالموافقة على إجراء الانتخابات الفلسطينية لم تأتي باعتبارها التزاما دستوريا تجاه الشعب الفلسطيني، بل جاءت تلبية لرغبات وضغوطات لدول أجنبية لها مطامح ومطامع استعمارية تهدف إلى أعادة إنتاج مفهوم الصراع للقضية الفلسطينية والإتيان على ما تبقى منها، وبتوجيهات دولية لإرساء قواعد عمل سياسية جديدة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولكن ورغم كل ما ذكر آنفا تشكل الانتخابات هي المخرج القانوني كونها تعني الاحتكام إلى إرادة الشعب الفلسطيني ، وتعيد ترتيب البيت السياسي الفلسطيني المبعثر وتجدد ثقة المجتمع الدولي المتزعزعة بالقضية الفلسطينية وهنا يثور تساؤل كبير: ماذا بعد صدور نتائج الانتخابات الفلسطينية ؟ وهل يتفق الفرقاء الفلسطينيون بعد النتائج تحت قبة البرلمان الفلسطيني المنتظر وهم مختلفون في برامجهم السياسية؟ وإذا ما جرت الانتخابات بسلاسة فكيف لها أن تعيد الاعتبار لمسار التحرر الوطني والانعتاق من الاحتلال؟!!!
يتضح تماما لكل عقلاء السياسة والمحللين والمتابعين بأن صورة الواقع السياسي الفلسطيني قاتمة وتشهد حالة من الانحدار السحيق والتعقيدات الكبيرة وتشعبات ما بين مراحل بناء سلطة فلسطينية مشوهة الخلقة سياسيا وتقوم بدور وظيفي وبين تحرير وطن مقدس ومسلوب وهي الغاية الكبرى التي تبررها كل الوسائل، وكذلك معالجة الفجوات الكبيرة في المعادلة الوطنية وإعادة هندسة هذا الواقع المأزوم سياسيا بما يضمن إعادة اعتباره في المعادلات الإقليمية والدولية، وهنا تظهر الحاجة الماسة لاستنساخ معادلة سياسية عبقرية خارجة عن المألوف والتقليد التي دأبت عليها السلطة الفلسطينية منذ قدومها لتصويب الحالة السياسية وإعادتها إلى مسارها الصحيح، وكذلك مدى نجاح الفلسطينيين في الخروج من عنق الزجاجة التي تم الزج بهم داخلها لعقود وبناء نظام سياسي مستقر، الأمر الذي يعني بالضرورة أن ترتبط الانتخابات بشكل جوهري في تغيير الحالة الوطنية ورسم خط بياني جديد للعمل المشترك، وإعادة مأسسة منظمة التحرير الفلسطينية واعتماد برنامج سياسي موحد، وبخلاف ذلك ستكون نتائج الانتخابات فارغة المضمون ومخيبة للآمال، وستفرز هياكل سلطوية تسعى إلى مصالحها الشخصية وتقوم بدور وظيفي تحت أحذية وبساطير الاحتلال ولا علاقة لها بتحرير وطن ووضع نهج الانعتاق من الاحتلال.
فلم يكن الانقسام أو الانفصال الحاصل نتيجة انتخابات العام 2006، بل جاء بسبب الفشل بعد الانتخابات وتداعياتها، حين رفضت فتح وحماس ما أسفرت عنه نتائج الانتخابات، ففي التاريخ السياسي العالمي عملية اختيار القيادة الوطنية في مرحلة الاستعمار العسكري هناك واقع لا يقبل التغيير، سواء أكان ذلك في حرب فيتنام أو في الجزائر أو تونس أو كوبا ،وهو أن تكون هناك قيادة موحدة وبرنامج سياسي واحد، ولم يكن ضمن تلك التجارب الثورية قيادات متنافرة ومتضاربة فمثلا لم يكن في الجزائر فريق يفاوض الفرنسيين وآخر يحاربهم، فالقانون الأساسي الفلسطيني ينص على أن رئيس السلطة الفلسطينية هو رئيس الكيانية الفلسطينية، وهو من يختار مرشح الحزب الحاصل على أعلى عدد من الأعضاء الناجحين في الانتخابات لعضوية المجلس التشريعي الفلسطيني لتولي منصب رئيس الوزراء ،وجرت العادة أن يلقي رئيس السلطة الفلسطينية خطابا يوضح فيه الخطوط الرئيسية للسياسة العامة التي يتوجب على الحكومة اتباعها، الأمر الذي يعني أن تتناغم سياسة الحكومة الجديدة مع مضمون خطاب الرئيس عبر اعتماد برنامج سياسي واحد ومتفق عليه، ودون القفز نحو المجهول والدخول في مناكفات سياسية لا طائل منها وألحقت ضررا جسيما بالقضية الفلسطينية كقضية شعب يسعى إلى نيل حقوقه والحصول على التحرير الكامل وصولا إلى إقامة دولة فلسطينية كاملة السيادة.
مما سبق نخلص إلى القول إنه وبعد استكمال تسجيل القوائم الانتخابية لدى لجنة الانتخابات المركزية والعدد الهائل لها والذي بلغ ٣٦ قائمة، فإن ازدياد عدد القوائم يشير إلى حالة اليأس والقنوط لدى الشعب الفلسطيني من إمكانية إحراز تقدم كبير في الملف السياسي للقضية الفلسطينية من قبل كبرى الفصائل الفلسطينية فتح وحماس، وأيضا نلحظ بوضوح ظهور جيل جديد يحمل فكر يريد أن يعبر عنه على الساحة الفلسطينية، وأن التصميم والرؤية الثاقبة ستفضي حتما في النهاية الى التحرير الكبير الموعود، وقد لا تحدد الانتخابات الفلسطينية المقبلة مستقبل السياسة الفلسطينية فحسب، بل تتعداه أيضا إلى مستقبل المحادثات الإسرائيلية الفلسطينية حتى ولو لم تكن المفاوضات من أجل تحقيق سلام وشيكة، وقد يضخ البرلمان الفلسطيني المنتخب بدماء جديدة لإعادة بعث نوع من الحياة في الديمقراطية الفلسطينية حتى وإن كان بشكل منقوص، ويجب أن يكون من مخرجات الانتخابات الناجحة توحيد الفلسطينيين بقيادة حكومة وحدة وطنية، الأمر الذي سيحول دون توجيه "إسرائيل" أصابع الاتهام بعدم وجود شريك سياسي موثوق به، ويمكن للقيادة الفلسطينية ان تستغل فرصة وجود إدارة أمريكية جديدة للتحرك نحو صفقة سلام مع "إسرائيل"، ومن الممكن أن تشكل الانتخابات الفلسطينية لحظة حساب على مستوى القضايا الاستراتيجية في حالة استكمال الانتخابات التشريعية بانتخابات المجلس الوطني الفلسطيني لمنظمة التحرير الفلسطينية، وهي فرصة لإخراج المنظمة من براثن الضعف والاحتواء من قبل السلطة الفلسطينية وإعادة الأمور الى نصابها يجعلها مرجعية السلطة الفلسطينية وتكريس إطار قيادي فلسطيني موحد مسؤوليته إعداد الخطط الكفاحية للانعتاق من نير الاحتلال.