حتى في "كورونا".. القوي ثم الضعيف
صدى نيوز - في الوقت الذي يتسابق فيه العالم المتقدم مع الزمن لتلقيح مواطنيه والوصول إلى "مناعة القطيع"، تحاول الدول النامية والفقيرة البحث عن كميات معقولة من اللقاحات لتوفيرها لشرائح معينة من المواطنين المتضررين من فيروس "كورونا"، وسط تحديات مهولة تتصل بمشكلات التنسيق والتعاون في هذا الموضوع ومعوقات التصدير والاستيراد.
الكثير من المنظمات والدول والأفراد يشتكون من غياب العدالة في توزيع اللقاح، ومعروف أن الدول الغنية والمتقدمة هي المصنعة للقاحات وتوزيعها على محيطها الداخلي، وهناك دول أخرى قادرة على توفير السيولة النقدية لاستيراد اللقاح، غير أن الحالة العامة مرتبطة بدول كثيرة لا تملك فائض المال ولا مقومات الصناعة الطبية المطلوبة.
حتى الآن هناك دول لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، وحدها من يصنع اللقاحات، ومع ذلك هي تشتكي من صعوبة توفيره على كل مواطنيها، الأمر الذي يعرقل مهام تصديره إلى خارج حدودها الوطنية، في إطار الضوابط التي تضعها بشأن توسيع قاعدة تلقيح أفرادها ومن ثم "غيري".
والمشكلة أن الحالة الوبائية حاضرة بقوة في الدول المُصنّعة للقاحات، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا وروسيا، ولذلك يبدو منطقياً بنظرها أن تكون أولوية الأولويات موجهة نحو وضعها الداخلي، لكن هذا لا يمنع من وجود مظلة تؤمّن الحد الأدنى من اللقاحات للدول الفقيرة.
باستثناء الصين التي تخطو بشكل جيد ومنسق لخفض أعداد المصابين بفيروس "كورونا"، وتوسيع دائرة الحصول على اللقاح، فإن غالبية التوزيع الديمغرافي تتركز في الدول النامية والفقيرة، ومع الأسف لا يأخذ هذا البعد السكاني أي حيز بالنسبة للدول المصدّرة للقاح.
أكبر كتلة من التركز السكاني تقع في قارة آسيا التي تغطي أكثر من 8% من المساحة الكلية للأرض، وفي الصين والهند وحدهما حوالي 2 مليار و700 مليون نسمة موزعين بالتقارب وإن في الصين أكثر قليلاً (1.398)، وهذا الجيش المهول من الناس لم يتلق اللقاح إلى الآن.
الصين والهند اللتان تنتجان اللقاحات بكثرة، متأخرتان كثيراً في مسألة توزيعه قياساً بعدد السكان، وهناك خطط باتجاه تلقيح ما يقرب من ثلث السكان في الصين مع نهاية شهر تموز المقبل، بينما تجتهد الهند لتوفير 300 مليون جرعة من اللقاح لمواطنيها مع نهاية الشهر الذي حددته بكين.
هذا يشي بأن الدول النامية والفقيرة لن تحظى بنسبة عادلة من اللقاحات، إلا إذا توفر عاملان، الأول أن تتحقق "مناعة القطيع" في الدول الغنية والمنتجة للقاح، وهذا بالتأكيد يحتاج إلى وقت يمتد بين الستة أشهر إلى العام، حتى تسمح بتصديره بوفرة إلى الدول المستهلكة له، والثاني مرتبط بهمة الشركات المنتجة للقاح والوفرة المالية لدى الدول النامية والفقيرة للطلب السريع عليه.
في إطار كل ذلك أطلقت الأمم المتحدة خطة عالمية "كوفاكس" لتوزيع ما يقارب ملياري لقاح على الدول الفقيرة حتى نهاية العام الحالي، وهذه الخطة الجريئة والكبيرة مرهونة بحجم التنسيق والتعاون بين الدول المصدرة للقاح والأمم المتحدة وكذلك الدول المستقبلة ومدى توفر التكلفة المالية.
ما يحدث في هذه الجائحة يعكس واقعاً حاضراً منذ الأزل، وهو يتعلق بإمكانيات الدول والبشر التي تصنفهم بناءً على قدراتهم العلمية والمعرفية وكذلك المالية، وهذا السلوك الدولي التصنيفي مفهوم في هذه الأوضاع الحالية، كونه مرتبط بمصطلح البقاء للأقوى.
المشكلة أن مفاهيم العدالة الإنسانية وحقوق الإنسان والمساواة في التعليم والصحة والأمن والعدالة في التوزيع والمسؤولية الاجتماعية باتت تتراجع لصالح غول العولمة وسيادة منطق رأس المال وتعظيمه، والجائحة أثبتت أن المصلحة الخاصة للدول تفوق المصلحة العامة للعالم.
مشكلة الدول الفقيرة أنها أمام تحدي ضوابط تصدير اللقاح من الدول الغنية التي تعرقل إمداداته، بالإضافة إلى تحدي نضج البنية التحتية بشأن مراحل تخزين ونقل وتوزيع اللقاحات في المدن والضواحي والقرى، والأهم من ذلك تحدي توفر السيولة النقدية اللازمة لشراء اللقاح.
هذا يعني أن "مناعة القطيع" قد تتحقق في بعض الدول الغنية حتى نهاية العام الجاري، لكنها لن تتحقق في الدول الفقيرة والنامية ولن تتحقق أيضاً على مستوى العالم، والتحدي الأكبر في هذا الجانب يتصل بصعوبات تخفيض أعداد الوفيات في الدول الفقيرة، وكذلك تراجع اقتصاداتها وانعكاس ذلك سلباً على قطاع العمالة وارتفاع نسب البطالة.
بمعنى أن التعافي عائد على الدول الغنية والمتقدمة التي لها حصة جيدة في الإنتاج العالمي، بينما قد تتراجع وتتدهور الإمكانيات الاقتصادية والاجتماعية والصحية للدول الفقيرة التي يتعكز اقتصادها على مداخيل ضعيفة بسبب قلة الموارد أو سوء تصريفها وبالتالي بقاءها رهينة للدول الغنية.
الجائحة برهنت أن هناك "عالم فوق" و"عالم تحت"، وهؤلاء الذين هم تحت مستحكمون من العالم العلوي الذي استنفد فيما مضى خيراتهم ومواردهم وتركهم للأيام تابعين له وكلما أرادوا الوقوف على أرجلهم حرمهم منها. هذا ما يحدث بالضبط مع عالم "كورونا".