ثالوث الأزمات في مواجهة بوادر الانتعاش
مقالات

ثالوث الأزمات في مواجهة بوادر الانتعاش

يسعى الاقتصاد للتخلص من ثالوث الأزمات العالمية، المشكَّل من وباء كورونا وحدّة الركود الاقتصادي وتزايد أعباء الديون، ويعمل جاهداً للعودة الى مسار التعافي رغم الندوب التي أصيب بها خلال العام 2020.
ماذا عن هذه العودة؟ وهل سيشهد العالم انفراجاً في العملية الاقتصادية بعد أشهر من التوتر والانعزالية والحمائية والانسياق وراء دعاوى الشعبوية؟
من الملاحظ أن بوادر تعافي اقتصادي عالمي قد بدأت في الظهور، وسط اعتماد حُزَم تحفيز مالي في كبرى الاقتصادات حول العالم، وبعدما كانت توقعات النمو العالمي تتوقف عند حدود 5.5% للعام الجاري، ها هو صندوق النقد الدولي يميل الى تحديث توقعاته إيجاباً خلال شهر نيسان الجاري، ليعكس واقعاً متجدداً أكثر تفاؤلاً. أما وكالة فيتش للتصنيفات الائتمانية، فقد رفعت توقعاتها للنمو العالمي من 5.3% في شهر كانون الأول الماضي الى 6.1%، وذلك في تقريرها الأخير عن آفاق الاقتصاد العالمي الصادر في الرابع والعشرين من شهر آذار الماضي، أي أعلى بنسبة 2.5% عما كان عليه عام 2019. وتتوقع الوكالة نمو الناتج المحلي الأميركي بنسبة 6.2% مقابل 4.5% في التوقعات السابقة، والصين عند 8.4% من 8.0% ومنطقة اليورو دون تغيير عند 4.7% على أن يبلغ النمو في الأسواق الناشئة، باستثناء الصين، 6.0% ارتفاعاً من 5.0% في توقعات كانون الأول الماضي.
الدافع الرئيسي لمراجعة التوقعات هو حزمة التحفيز المالي التي فاقت التوقعات، والتي تم تمريرها مؤخراً في الولايات المتحدة الأميركية بقيمة 1.9 تريليون دولار أميركي، وحُزَم التيسير المالي في المملكة المتحدة وايطاليا واليابان وألمانيا والهند، كما الاستعدادات التي يجريها صندوق الانتعاش الأوروبي لتوفير دفعة كبيرة لنمو منطقة اليورو في المستقبل القريب، علماً أن الصين هي الاقتصاد الوحيد الذي بدأ تطبيع اعدادات سياسة الاقتصاد الكلي، اذ يتم تقليص العجز المالي وتباطؤ نمو الائتمان مع نضوج الانتعاش الاقتصادي فيها.
من الاقتصاد العالمي، الى الاقتصاد الأول في العالم، حيث شهدت الساحة الأميركية تغيراً في قيادتها ورجوعاً حميداً الى المسارات الدولية متعددة الأطراف، فعادت لاتفاقية باريس للتغير المناخي بعد غياب طويل، وقدمت مساعدة مالية لمنظمة الصحة العالمية بعد انقطاع، ومهّدت الطريق لتولية قيادة افريقية ادارة منظمة التجارة العالمية بعد فترة من الجمود دون قرار.
ومع التغيير الايجابي في الأداء العام، تشير التقديرات الى احتمالات أن يشهد الاقتصاد الأميركي نمواً بنسبة 6.5%على الأقل مع نهاية العام الجاري، بفضل توسع مظلة التطعيم ضد كوفيد_19، وما يعنيه ذلك من عودة الحياة والأنشطة الاقتصادية الى طبيعتها في الولايات المتحدة وكذلك بفضل سياسات الحزم التحفيزية للاقتصاد الأميركي التي اطلقتها ادارة بايدن مطلع العام الجاري.
وبحسب البيانات الصادرة عن وزارة التجارة الأميركية، شهد الربع الأخير من العام الماضي نمواً نسبته 4.3% في الاقتصاد الأميركي مقارنة بمعدل النمو المسجل في الربع الأخير من عام 2019. وجاء في بيان صادر عن وزارة التجارة الأميركية أن مستوى النمو الاقتصادي المتحقق في الولايات المتحدة خلال الربع الأخير من 2020 فاق متوسط معدلات النمو المسجلة في الأرباع الثلاثة السابقة عليه وكان بنسبة 4.3%. وأرجع البيان سبب تباطؤ معدلات النمو الربع في الاقتصاد الأميركي الى أثر سياسات الاغلاق على التجارة وأوضاع الاقتصاد بشكل عام في مواجهة جانحة كوفيد_19 وهو ما أدى الى انكماش الاقتصاد الأميركي بنسبة 3.5% خلال العام الماضي، بعد نمو كانت نسبته 2.2% خلال عام 2019.
في الوقت الذي يتوقع فيه صانعو السياسات في مجلس الاحتياطي قفزةً في الإنفاق ونمواً في الاقتصاد خلال الأشهر المقبلة، صرح رئيس مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأميركي جيروم بأول ان اقتصاد الولايات المتحدة تحسن كثيراً، ناسباً الفضل للكونغرس والبنك المركزي كليهما في تقديم دعم لم يسبق له مثیل، لكنه حذر في الوقت نفسه من أن التعافي ما زال بعيداً عن أن يکون کاملاً.
اذا كان الاقتصاد الأول في العالم، يسعى بكل امكاناته وحُزمِه للعودة الى سكة النمو، فان الاقتصاد الثاني بات متأكداً من بلوغ هذه الغاية بعد قضائه بشكل شبه كامل على الوباء، حيث صرح رئيس الوزراء الصيني أن ثاني اقتصاد في العالم يطمح لأن يتجاوز عتبة الـ6% نمواً لهذا العام، مضيفاً أن «الصين ستواصل مواجهة العديد من المخاطر والتحديات في مجال التنمية، لكن الأسس الاقتصادية التي ستدعم النمو الطويل الأمد لم تتغيّر».
القارة العجوز التي عانت من هذه الجائحة كثيراً، سيتأخر تعافيها الاقتصادي حتى النصف الثاني من العام، على رغم تعزيز خطة التعافي التي اقرها الاتحاد الأوروبي العام الماضي وتبلغ قيمتها 750 مليار يورو، وذلك بسبب موجة الوباء الثالثة من جهة وتأخر عمليات التلقيح من جهة ثانية.
الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون قال «إن استجابة الاتحاد الأوروبي كانت على مستوى التحدي اثر الموجة الوبائية الأولى في ربيع 2020، لكن يجب بلا شك أن نعزز الاستجابة في أعقاب الموجتين الثانية والثالثة»، وقارن ماكرون سياسات التعافي بين الولايات المتحدة وأوروبا قائلاً «ان قوة الرد الأميركي والخطة التي اعلنها الرئيس بايدن والكونغرس في الربع الأخير من شهر آذار تضعنا أمام مسؤولية تاريخية».
تدل المؤشرات أن منطقة اليورو ستحقق نمواً خلال العام الجاري يصل الى نحو 3% وان الجزء الأكبر من الانتعاش سيجري اعتباراً من الربع الثالث من العام، وانها في الاجمال، لن تستعيد ناتجها المحلي الاجمالي السابق للأزمة قبل النصف الثاني من العام 2022، بتأخر عام كامل عن الولايات المتحدة الأميركية.
اذا كانت الاقتصادات العالمية في طريقها للخروج من الأزمة وتحقيق النمو، فان أزمة انسانية تبدو معدلات استمرارها وتفاقمها أكبر من آمال التغلب عليها في المستقبل القريب... أنها أزمة الفقر مترافقةً مع اتساع الفجوة الاقتصادية.
أدت جائحة كوفيد_19 الى تفاقم التفاوت الاقتصادي في جميع أنحاء العالم، حيث ذكرت منظمة «اوكسفام» التي تعمل في مجال الفقر والظلم على مستوى الكرة الأرضية، أنه في الفترة من 18 مارس الى نهاية عام 2020، زادت ثروة المليارديرات العالمية بمقدار 3.9 تريليون دولار. وعلى النقيض من ذلك، ووفقاً لمنظمة العمل الدولية انخفضت ايرادات العمال في العالم بمقدار 3.7 تريليون دولار حيث فقد الملايين وظائفهم في جميع أنحاء العالم.
يشير «تقرير الثروة العالمية» لمصرف كريدي سويس، أن أغنى واحد في المئة في العالم، الذين لديهم أكثر من مليون دولار، يمتلكون 44% من ثروة العالم. وتظهر بياناتهم أيضاً أن البالغين الذين تقل ثروتهم عن عشرة آلاف دولار أميركي يشكلون 56.6% من سكان العالم، لكنهم يمتلكون أقل من 2% من الثروة العالمية. ويشكل الأفراد الذين يمتلكون أصولاً تزيد قيمتها على مئة ألف دولار أقل من 11% من سكان العالم لكنهم يمتلكون نحو 83% من الثروة العالمية.
لا يؤثر سوء توزيع ثروة الأمم في الدخل فقط، ولكن يتعداها حيث عدم المساواة تؤثر في تحديد صحة الدول، والسؤال هو: كيف يرتبط عدد المساواة بالصحة؟ تشير الأدلة المتزايدة من العلماء في جميع أنحاء العالم الى أن العديد من مؤشرات الصحة مثل متوسط العمر المتوقع، ومعدل وفيات الرضع والسمنة وغيرها، يمكن ربطها بمستوى عدم المساواة الاقتصادية داخل مجموعة سكانية معيّنة. ويبدو أن زيادة عدم المساواة الاقتصادية تؤدي الى نتائج صحية أسوأ. ان سوء الصحة والفقر يسيران جنبا الى جنب، ولكن تظهر الأبحاث الوبائية أن المستويات المرتفعة من عدم المساواة تؤثر سلباً في صحة حتى الأثرياء. ويرجع ذلك أساساً، كما يؤكد الباحثون، الى أن عدم المساواة يقلل من التماسك الاجتماعي، وهي ديناميكية تؤدي الى مزيد من التوتر والخوف وانعدام الأمن للجميع، وقد عرف الاقتصاديون وخبراء الصحة منذ سنوات أن الأشخاص الذين يعيشون في المجتمعات الفقيرة يعيشون حياة أقصر، ويعيش فترة أطول في الدول ذات المستويات الأقل من عدم المساواة، وفقاً لبيانات منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي.
عودة العافية الى اقتصاديات العالم نأمل أن تترافق مع تراجع معدلات الفقر وردم فجوة التفاوت الاقتصادي، بما يؤدي الى مزيد من التعاون الدولي ونشدان الرخاء للبشرية والحفاظ على السلم والاستقرار.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.