عن جذور الخلاف بين الرياض وطهران
بغض النظر عن صحة حصول لقاء بين وفدين سعودي وإيراني على الأراضي العراقية مطلع هذا الشهر الجاري، والبدء بمحادثات مباشرة، على خط موازٍ لمفاوضات فيينا حول إحياء الاتفاق النووي، علينا أن تخامرنا الأوهام، بإمكانية إحداث اختراق حقيقي في العلاقات بين السعودية وإيران.
ففي إيران، يلتزم الحرس الثوري بالحفاظ على المكاسب الجيوسياسية المتحققة في المنطقة، ويُظهر التزاماً أكبر بالخطاب المصدر للثورة وبنيته التحتية.
وتاريخياً، كثيرة هي الأسباب التي تجعل من العلاقات السعودية - الإيرانية علاقات يشوبها النزاع، ويُشكل العام 1979 عاماً حاسماً في تاريخ العلاقات السعودية الإيرانية، وذلك بعد سقوط نظام الشاه وقيام نظام جمهوري إسلامي، وتزايد المخاوف السعودية من تصدير الثورة الإيرانية إلى دول الجوار.
ومنذ الثورة الإيرانية، شكلت الدولتان قطبين متعارضين في السياسات الإسلامية – جمهورية ثورية شيعية مقابل مملكة محافظة سنية.
ويُضاف إلى ذلك، التنافس الجيوسياسي الطبيعي في منطقة الخليج.
وهذا الوضع كان مختلفا، عما كان في عهد الشاه، فقد عرفت العلاقات بين البلدين حالة من الاستقرار والتعاون، نتجت أساساً من انتساب الطرفين إلى المعسكر الدولي نفسه الذي كانت تقوده الولايات المتحدة خلال فترة الحرب الباردة، وشعورهما المشترك بتهديد الاتحاد السوفياتي وحلفائه الإقليميين، وبفضل القواسم المشتركة بين الجانبين في شكل الكيان السياسي (ملكي) والحلفاء ومنطق الدولة الذي يحتكمان إليه.
لكن بتلمس خيوط العلاقة الأولى بين المملكة وإيران، نستنتج أن السعودية وجدت نفسها منذ بواكير نشأتها، في خلاف لا بد منه مع طهران الشاه.
لقد كانت تلك الحالة السائدة بسبب الأطماع الإيرانية في السواحل الشرقية للخليج العربي، وبخاصة بعد إعلان بريطانيا عن رغبتها في الانسحاب من المنطقة في أواخر ستينيات القرن الماضي، فسارعت إيران إلى احتلال جزر الإمارات الثلاث العام 1971.
لكن العلاقات بين البلدين توترت بشدة بعد إطاحة نظام الشاه وإعلان الجمهورية الإسلامية في إيران العام 1979، إذ خرجت إيران من استقطابات الحرب الباردة، وشرعت في محاولة تصدير ثورتها إلى الخارج وإطاحة الأنظمة المحافظة في منطقة الخليج، وكان خطاب تصدير الثورة قائما على الأممية، ونصرة المستضعفين.
وبدأت إيران بعد الثورة سياسات بناء ركائز نفوذ لها في مجتمعات الدول المجاورة عبر محاولات التواصل مع مكوناتها الشيعية، أو ادّعاء تمثيل هذه المكونات وقضاياها.
وأصبح السعوديون، لا يرون في إيران دولة طبيعية يمكن التفاهم معها، بينما ترى إيران أن ما تسميه «التبعية السعودية» للغرب تجعل التلاقي معها عصياً.
ولذلك، كان متوقعاً وقوف السعودية إلى جانب العراق ودعمها له في حرب السنوات الثماني مع إيران (1980 - 1988).
وشهدت تلك الفترة العديد من الأحداث، كقيام طهران بقصف ناقلات النفط السعودية، وإسقاط الرياض لطائرتين إيرانيتين.
وشكل الهجوم على السفارة السعودية في إيران 1987 أحد مفردات الصراع بين السعودية وإيران، حيث قررت الرياض قطع العلاقات الدبلوماسية مع طهران بعد اقتحام مُتظاهرين لسفارتها.
لقد قام في إيران بعد الثورة نظام ديني مذهبي يحوّل الدولة إلى أداة في نشر وفي تسييس الانتماء الطائفي للشيعة عبر العالم بربطهم بدولة ليست دولتهم. وأخذت إيران على عاتقها مهمة فرض نفسها ممثلًا للشيعة حول العالم.
وبدأت عملية بناء قوى وأحزاب وميليشيات شكّلت أدواتٍ لإيران وأذرعاً لها تستخدمها للتأثير في مجتمعات هذه الدول وفي علاقات القوة القائمة في الإقليم أيضاً، فجرى إنشاء حزب الله في لبنان من قبل الحرس الثوري الإيراني في مطلع الثمانينيات، كما ظهر المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق وجناحه العسكري «فيلق بدر» الذي أسسته إيران العام 1982 - ولاحقا الحشد الشعبي الذي يدين بالولاء لطهران ، وميليشيا الحوثي في اليمن -.
لكن بعد وصول الإصلاحي محمد خاتمي إلى منصب الرئاسة في إيران ومحاولته الانفتاح على جيرانه والعالم، حدث تحسن في العلاقات بين البلدين، إلا أن العلاقات سرعان ما عادت إلى التوتر بعد الغزو الأميركي للعراق العام 2003. وازدادت سوءًا بعد وصول محمود أحمدي نجاد إلى الحكم في 2005.
قاد أحمدي نجاد، الذي جاء ممثلاً لتيار أصولي متداخلٍ مع نزعة قومية طاغية، تحولاً في سياسات إيران الإقليمية، مستفيداً من التغيّر الإستراتيجي الكبير الذي طرأ في المنطقة بفعل التدخل العسكري الأميركي في المنطقة، واحتلال العراق وأفغانستان. فقد أخذ يروِّج ليس لتصدير الثورة الإسلامية إلى دول الجوار فحسب، كما كان عليه الحال في عهد آية الله الخميني، وإنما أيضاً لإنشاء مشروع هلال إيراني يمتد إلى البحر الأبيض المتوسط مستخدماً أدوات تصدير الثورة مثل تسييس الطائفية ودعم ميليشيات وأحزاب طائفية في لبنان والعراق واليمن، والأخطر، تدشين مشروع نووي لطهران.
وبينما أيدت إيران ثورات تونس ومصر، تحوّلت الثورة في سورية ضد الاستبداد والفساد - في نظر طهران - إلى «مؤامرة» أميركية إسرائيلية عندما وصلت إلى سورية، فقد أصبحت المسألة قضية استهدافٍ للمقاومة ومحورها، وقد شاركت طهران بالعتاد والأسلحة والرجال، لقمع الثورة السورية.
وبعد سقوط صنعاء بيد الحوثيين في أيلول 2014، بدا أنّ إيران استكملت حصار السعودية؛ ففي الشمال غدت إيران تفاخر بتحكّمها بمفاصل القرار في دمشق وبغداد وبيروت، كما أضحت تتحكّم بصنعاء في الجنوب، وتستمر في محاولات زعزعة استقرار بقية دول الخليج .
ونتيجة لذلك، قامت السعودية بتدخل عسكري في اليمن، والذي يعد الأكبر في تاريخها، بعد أن سيطر الحوثيون على العاصمة صنعاء وأصبحت إيران تهددها من خاصرتها الجنوبية. وكان النفوذ الإيراني دائماً ما يكون تحت عباءات ذات أثمان باهظة مثل الطائفية والمذهبية وشعارات المقاومة ونصرة المستضعفين والثورة ضد الظلم، التي انتهت إلى «تفكيك الكتل المتجانسة»، وفق تعبير المفكر العراقي حسن العلوي، واستحالة العواصم التي تفاخر بالسيطرة عليها، أكواماً من الخراب.
ويشير الماضي القريب إلى أنه ليس من المستحيل تخيّل تقاربٍ سعودي – إيراني، غير أن هذا التقارب لن يتحول إلى تحالف.
ولا يمكننا حتى أن نشهد على زواج قسري، كذلك الذي ميّز العلاقات في خلال فترة حكم الشاه، حين جمعت ديناميكيات الحرب الباردة بين الرياض وطهران.
قد يتمثل التقارب ببساطة باتفاق يقضي بالتخفيف من حدة الإدانة المتبادلة والتصرف ضمن قيود ذاتية بهدف الحدّ من تبعات امتداد النتائج غير المباشرة للصراع المحلي المحتدم في كل اليمن من سورية والعراق، وخصوصا بأننا في عهد بايدن وليس في عهد ترامب.