الحدث الفلسطيني ـ الحجر الذي أهمله البناؤون
المكوّن الأهم في «الحدث الفلسطيني» كما تجلى في أيار الماضي، وبقدر ما أرى، هو الإضراب الكبير في عموم فلسطين الانتدابية. لا الصواريخ، ولا وقفة أهل الشيخ جرّاح، والمجابهات في الأقصى، ومناطق مختلفة، تعادل هذا المكوّن من حيث الدلالة التاريخية، والتداعيات المُحتملة. وما أضفى أهمية خاصة عليه حضوره بعد، وفي سياق، صدامات بين فلسطينيين وإسرائيليين داخل الخط الأخضر، في «مدن مختلطة».
يمكن استخلاص الكثير من دلالات الإضراب الكبير، وما تسبب فيه، وأسفر عنه. وما يعنيني، في هذا الشأن، يتمثل في دلالتين: صعود دور وفعالية الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، وانفتاح المستقبل على دور أكبر لهم على خلفية الصراع في فلسطين وعليها. وفي الأمرين ما ينطوي على دلالات وتداعيات إضافية كثيرة. كيف ولماذا؟
فلنبدأ بالعبارة المألوفة لحبيبنا يسوع عن الحجر الذي أهمله البناؤون. تأتي العبارة في النص الأصلي في صيغة «الحجر الذي رفضه البناؤون». وهذا سيكون مفهوماً بطريقة مجازية، ولكنه قد يخلق انطباعات غير صحيحة، على خلفية الأدوار التي مارستها مختلف التجمّعات الديمغرافية الفلسطينية بعد النكبة، وفي ظل الحاضر، أيضاً.
وبهذا المعنى، يمكن أن نرسم خطوطاً عريضة لخارطة مراكز الثقل في تاريخ الحركة الوطنية الفلسطينية، وتحوّلاتها. فمنذ أواسط الستينيات صعد دور الدياسبورا الفلسطينية من خلال الحركة الفدائية، ولم يمر وقت طويل حتى أصبح قادة الفصائل مؤسسين وقادة للحركة الوطنية في طورها الجديد بعد النكبة، وتُوّج هذا كله بمظلة منظمة التحرير خاصة بعد الاعتراف بها ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب، في أواسط سبعينيات القرن الماضي.
هذا لا يعني، بالضرورة، التقليل من إسهام مختلف التجمعات الديمغرافية في فلسطين. كل ما في الأمر أننا نتكلّم عن مركز الثقل، ويمكن تفسير معنى ومبنى المركز من خلال خصوصية المثلث المصري ـ السوري ـ العراقي، في زمن صعود الحركة الوطنية، وخصوصية أوضاع الفلسطينيين أنفسهم في ذلك الزمن. والمهم في الأمر أن مركز الثقل تزحزح في أعقاب الانتفاضة الأولى، وانتقل إلى قطاع غزة والضفة الغربية، خاصة بعد أوسلو وإنشاء السلطة الفلسطينية، وفي إطار منظمة التحرير، أيضاً.
وإذا جازت لنا المجازفة بفرضية جديدة، فلنقل إن ثمة ما يشبه حراك تيارات جوفية عميقة قد تكون نتيجتها انتقال مركز الثقل إلى داخل الخط الأخضر. ولنوضّح قليلاً: الصحيح أن مؤسسي وبناة الحركة الوطنية لم يهملوا، ولا رفضوا، ذلك الحجر، ولكن ظروفاً موضوعية فرضت عليهم أولويات، وأرغمتهم على خيارات. وقد تغيّرت الظروف والأولويات، الآن، بعد مياه كثيرة مرّت تحت الجسر. لذا، تنفتح خيارات غير مسبوقة الآن.
وهذا كله، بقدر ما أرى، يستمد المعنى والمبنى من أمرين: أولاً، انسداد أفق التسوية السياسية على مبدأ دولتين لشعبين، وتجلى الأبارتهايد كأمر واقع لا ينتظر الفلسطينيين، في بلادهم، كاحتمال في مستقبل ما، بل هو ما يعيشونه فعلاً بتسميات مختلفة. وثانياً، التغيّر الكبير الذي طرأ على العالم، وفي القلب منه الصراع بين قيم الديمقراطية، والتعددية، والمواطنة، وحقوق الإنسان من ناحية، والشعبويات والعنصريات العرقية والقومية على أنواعها من جهة ثانية. وهذا ما ولّد لغة وأدوات جديدة.
وفي سياق كهذا، لن يتمكن الفلسطينيون من هزيمة نظام الأبارتهايد، وتفكيكه، إلا انطلاقاً من قيم الديمقراطية والتعددية، والمواطنة، وحقوق الإنسان. هذه هي القيم الذي ستمكّنهم من مخاطبة العالم بلغة يفهمها، ومن بلورة أشكال مختلفة للمناصرة والتضامن والتعبئة والتعاون على صعيد العالم. فلا حل دون دور للعالم. لم تنشأ الدولة الإسرائيلية في عام 1948 إلا لأن كارثة الهولوكوست أثقلت على ضمير العالم، وما دون ذلك أقل فعالية في سلّم المبررات. فحتى في سياق التحليل بلغة المصالح الكولونيالية، في الشرق الأوسط، فإن أصحابها يحتاجون إلى ذرائع أيديولوجية تمثل بطانة أخلاقية للمشروع.
والواقع أن ركوب اليمين الديني القومي الإسرائيلي موجة الشعبويات والعنصريات الصاعدة في مناطق مختلفة من العالم، وحتى ممارسة أدوار ريادية فيها، وسياسة مختلف الحكومات الإسرائيلية إزاء الفلسطينيين، على مدار سبعة عقود، قد سحبا كثيراً من الرصيد الأخلاقي للدولة وممثليها. وعلى الرغم من الكلام، منذ وقت أصبح طويلاً، عن عدم وجود «شريك للسلام» بين الفلسطينيين، إلا أن العالم يعرف الحقيقة بشكل أفضل، ويمكن للفلسطينيين أنفسهم مساعدته على الفهم، أيضاً.
لذا، في الأمرين الأوّل والثاني ما يُرشّح ذلك الجزء من الفلسطينيين لدور أكبر في طور جديد للحركة الوطنية، وعلى أمل أن يكون هذا في إطار منظمة التحرير، أيضاً، التي طرحت قبل ما يزيد على أربعة عقود مشروع الدولة العلمانية الديمقراطية.
لن يحدث هذا بين ليلة وضحاها. لا توجد أفكار أو خارطة طريق جاهزة تتحوّل بموجبها الأفكار إلى ممارسة للسياسة على الأرض. فالواقع يفرض، دائماً، لغته وأدواته. كل ما في الأمر، محاولة رصد اتجاه الريح، وقراءة علامات بعينها، وفتح نافذة جديدة.
الاستيطان لن يتوقف. عنف المستوطنين مرشح للتصاعد، والحرب «الأهلية» في الأفق. اليمين ليس مرحلة عابرة في تاريخ الدولة الإسرائيلية، وفي مجتمع مأزوم. نظام الأبارتهايد حقيقة واقعة، وبدرجات طيف مختلفة ما بين منطقة وأُخرى. والمفارقة أن هذا النظام يُوحِّد الشعب والأرض من حيث لا يدري ولا يشاء. فاصل ونواصل.