الحدث الفلسطيني ــ أفق جديد
نغلق بهذه المعالجة قوساً فتحناها في معرض التعقيب على أحداث أيار الماضي. ولنقل، بداية، إن للأحداث المعنية دلالات بعيدة المدى، ولكنها تذهب في اتجاهات متباينة، وبعضها في حالة تضاد قد تودي بها. فاستنتاج دروس خاطئة من المجابهة العسكرية، ومحاولة استثمارها في زعزعة السلطة الفلسطينية، والاستيلاء على منظمة التحرير من شأنه إجهاض ما فتح الإضراب التاريخي في فلسطين الانتدابية من أفق جديد بحجم المساحة الجغرافية التي تجلى فيها وعليها.
انفتح هذا الأفق نتيجة عملية تاريخية طويلة. فقد كان الصراع في فلسطين وعليها، على مدار مائة عام، وما زال، على الأرض والموارد والسيادة. ويمكن أن نضيف إلى القائمة، الآن، الصراع على الحقوق المتساوية، أيضاً. وهذا كله يحدث الآن وهنا، في ظل:
أولاً، ما نشأ من وقائع على الأرض طوال الفترة المعنية، ورفض الإسرائيليين لا لمبدأ اقتسام الأرض والموارد وحسب، بل وحتى العمل على تجريد الفلسطينيين من نسبة 22 بالمائة مما تبقى في حوزتهم من الأرض والموارد، أيضاً. وثانياً، الخلل الهائل في موازين القوى، وانهيار الحواضر العربية، وتحالف إسرائيل، القوّة الإقليمية الصاعدة، في السر والعلن، مع دول في مجلس التعاون الخليجي. وثالثاً، موجة الشعبويات والقوميات والعنصريات الصاعدة، والتي تسعى، ضمن أمور أُخرى، للانقلاب على مبادئ وقيم مختلفة تكرّست في القرن العشرين، وفي القلب منها الحق في تقرير المصير.
وفي ظل هذا كله، يمكن تفسير ظواهر مختلفة منها العلاقة العضوية بين الصراع على الأرض والموارد ونظام الأبارتهايد. وتفسير «سلام إبراهيم» (الذي لم يخرج من المشهد، ولا من التداول، مع خروج ترامب من البيت الأبيض) كقناع اقتصادي وسياسي وعسكري للقوّة الإسرائيلية الصاعدة وشركائها العرب. وتفسير ظاهرة الإسلاميين المعتدلين والمحافظين، بعد فضيحة الدواعش، كغطاء أيديولوجي للحلف نفسه، الساعي ضمن أمور أُخرى، لطرد مفردات الديمقراطية والمواطنة وحقوق الإنسان من قاموس السياسة العربية.
أما التمثيل الفعلي للحلف على الأرض فيتمثل في إنشاء سوق جديدة يتربع على سدتها قليل من أغنياء النفط ومواطنيهم وشركائهم من نخب الحواضر، ويُستعبد فيها ما لا يحصى من ملايين المنتجين والمستهلكين، ومع وجود وزارات للسعادة والتسامح، وفضائيات كالجزيرة، أيضاً. فليس في جعبة الحلف ما هو أبعد من عالم جورج أورويل، كما يعرف أصحاب الاختصاص.
لذا، وبقدر ما يصبح الفلسطينيون في عين العاصفة، وتحدق بهم مخاطر غير مسبوقة، ينفتح أمامهم أفق يعيد المسألة الفلسطينية إلى جذرها الأصلي: الصراع على الأرض والموارد والسيادة على قاعدة الحقوق المتساوية. وفي السياق نفسه، يعيد هندسة العلاقة بين فلسطين والفلسطينيين والشعوب العربية: مَنْ ينهبنا ينهبكم، ومَنْ يصادر حقنا في الحرية يصادر حقكم، ومن ينكر علينا الحق في المواطنة والمساواة وحقوق الإنسان ينكرها عليكم، أيضاً.
والمفارقة، في هذا الشأن، أن الكلام الذي أفرط اليساريون الفلسطينيون في تكراره، قبل عقود، عن التحالفات والمصالح بين الرجعيات واليمين العربي والإسلامي والكولونيالية الغربية، يكاد يكون قد اختفى من لغتهم السياسية هذه الأيام، مع ملاحظة أنه ربما لم يكن صائباً وصالحاً في يوم من الأيام كما هو الآن، بعد دخول الإسرائيليين الحلبة من أوسع وأوضح أبوابها.
على أي حال، الأفق الذي نتكلّم عنه لن يكون فاعلاً وفعّالاً لمجرد أنه موجود، ودون القيام بواجباتنا المنزلية، كما يُقال. فهذا كله مشروط بخطاب يمكن أن يجد فهماً وتفهّما بين ولدى الإسرائيليين والعرب، وفي العالم. وبهذا المعنى وفيه نعيد تجليس الخطاب عن منظمة التحرير، وضرورة إصلاحها، وتمكينها، على قاعدته الحقيقية، أي البرنامج، لا على قاعدة التقاسم والاقتسام الفصائلية. فالمسألة الرئيسة هي ترجمة الأفق الجديد بما فيه من متغيّرات، وما ينطوي عليه من فرص ومخاطر، إلى برنامج يُوحّد الكتل الديمغرافية في فلسطين وخارجها.
وبهذا المعنى، أيضاً، نعيد تجليس الكلام عن السلطة الفلسطينية، على قاعدته الحقيقية، أي إلى حقيقة أنها وليدة الحركة الوطنية، وآخر حرّاسها وممثليها، بصرف النظر عمّا تراكم من تحفّظات وأخطاء، لا ينبغي كتمانها أو التغاضي عنها. ففي زعزعة السلطة، والاستيلاء على المنظمة، ما يعني لا إغلاق الأفق الجديد وحسب، بل وتبديد ما تراكم من خبرات وميراث الحركة الوطنية، أيضاً، على مدار عقود، وبعد تضحيات كثيرة. وعلاوة على هذا وذاك إغلاق ما ينفتح من أفق، ويتجلى كاحتمالات. خاصة ونحن، كما العالم، نعيش زمن وفوضى ما بعد الحقيقة.
وتبقى مسألة أخيرة: عوامل الفشل في استثمار الأفق الجديد بنيوية، أي في صميم بنية وتكوين المجتمع في وضعه الراهن. فمن عمى البصر والبصيرة، بالتأكيد، التفكير بأن المعادين لاتفاقية مناهضة العنف ضد المرأة (سيداو)، مثلاً، ومن يدخل في حكمهم، لا يملكون ثقلاً في الشارع الفلسطيني، وأن بلورة خطاب يحظى بالقبول من وبين الإسرائيليين والشعوب العربية والعالم تعنيهم من قريب أو بعيد، أو أن التحذير من الاستيلاء على منظمة التحرير يثير أدنى مشاعر القلق في نفوسهم. هذا تصوّر لحالة بعينها. وثمة حالات، تبدأ بالفصائل والميليشيات ولا تنتهي عندها، لكل منّا أن يحصيها على طريقته.
لذا، ربما تقع على عاتق المثقفين الوطنيين في هذه اللحظة، بالذات، وفي سياق الكلام عن أفق ولغة جديدين، مسؤولية سياسية وأخلاقية لم تكن ملحة في أوقات مضت كما هي الآن. فالأفق لا ينفتح بما تقول الفصائل والميليشيات بل بما ينجب التفكير النقدي التقدمي المستقل. ولم لا، ومَنْ قال إن مفردة «التقدمي» لم تعد صالحة للتداول، وأن الاستقلالية تهمة؟