لا تغتالوا طفولةَ أبنائِكم!
شاهدتُ في غزة قافلةَ سياراتٍ تصدح بأغاني الفرح، باستخدام قاصفات الأذان الخارقة، كنتُ أبتسم وأنا أشاهد الموكبَ الكبير، غير أنني ابتلعتُ بسمتي وأنا أشاهدُ يدَ طفل، لا يتجاوز الثامنة من عمره، ألقى من نافذة إحدى سيارات الفرح عبوةَ (فرح) متفجرةً قوية، انفجرت بين أقدام أسرة مكونة من أربعة، وبين قدميَّ، ظل الطفل ينظر إلينا من شباك السيارة، وهو منتشٍ بحالة الهلع التي أصابتنا!
تذكرتُ حدثاً آخرَ عندما كنتُ أسكن في مكانٍ ريفيٍ، يأتي إليه الأطفالُ ليصطادوا العصافير الصغيرة الجميلة، بخاصة عصفور، القرقزان النحيل الراقص، عقدتُ مع طفلين صفقةً؛ أن أشتريَ منهما كل الصيد، كان أحدهما في العاشرة من عمره، أما الثاني فهو الأصغر، وافقاً بفرحٍ غامر، اشتريت أكثر من اثني عشر عصفوراً جميلاً صغيراً، كنتُ أعيدُ العصافير مرة أخرى إلى الفضاء الفسيح، وما إن شاهدني الكبيرُ أعيد إطلاق سراح العصافير، حتى امتنع عن بيعِ أي عصفورٍ جديد، ولما سألتُه باستغراب: قال: «أنت تضيع جهدنا، كنتُ أحسبك ستذبحها لتأكلها، لا لتُطلق سراحها»!
إن اغتيال طفولة الأطفال، وزرع العنف، بادعاء، الرجولة، هو كارثة وطنية عربية وفلسطينية تستحق الدراسة، والمتابعة، والتعديل!
كثيرون يسعدون بشجاعة أبنائهم، أو (تهورهم)، حتى أن أحدهم ينادي ابنه (الأزعر) لأنه يبحث عن المشكلات، يأخذ حقه بيده، لا يشتكي، فهو، كما يقول الأب، لا يشبه أخاه الأصغر الضعيف المتسامح! فالتسامح جُبن، والتنازل عن الحق، ضعفٌ وهوان.
كذلك اعتاد كثيرون أن يختاروا لأبنائهم الصغار أسماءً هجومية منذ ولادتهم، مستوحاة من الصقور والنسور، ومن الحرب، والمعارك، والطعان، ومن الهجوم، والغزو، يشترون لهم ألعابا من الأسلحة، والمتفجرات، سيارات الجيش، والأصفاد، يشجعونهم على مشاهدة أفلام العنف والقتل، يشاهدونهم وهم يعذبون الحيوانات الأليفة، ويقتلون العصافير بالحجارة، ويقتلعون الأزهار، ويقطعون أغصان الأشجار، والحجة، حتى يصبحوا رجالاً!
لم يقتصر اغتيالُ الطفولة على العوام، بل طالَ أيضاً الأحزاب والتيارات السياسية، بحُجة النضال، حين تقوم الأحزاب والتيارات السياسية، والجهات المنسوبة للدين بتدريب الأطفال كميليشيا حربية، بغض النظر عن سن الرشد، يتدربون على السلاح، حتى أن أنديتنا الرياضية، ترفع شعاراً: تدريب الأطفال على فنون القتال! وقد لفتُّ نظرَ بعض المسؤولين ليُغيروا، فنون القتال ليصبح الشعار فنون الدفاع عن النفس، غير أنهم لم يقتنعوا!
إن اغتيال طفولة الأطفال الفلسطينيين جريمةٌ ينبغي تداركها قبل فوات الأوان، لا يجب أن نُعزز مؤامرة المحتلين، ممن خططوا بحروبهم، وقمعهم، واغتيالهم لتحويل أطفالنا إلى حقولٍ متفجرة في وجوهنا، سعى المحتلون إلى تحقيق هذه الغاية، وهي أن يصبح أبناؤنا عقبة في طريق بناء مستقبلنا، ينشرون الجرائم، والعنف، بدلاً من أن يكونوا معاول بناء للمستقبل، ظل المحتلون يسعَون لاغتيال طفولة أطفالنا، ثم تركوا المهمة لممارساتنا نحن، حين نغتال أروع جينات الإبداع والتفوق، فنغتال نقاء طفولتهم!
لم نعِ بعدُ خطر بحثنا عن الرجل (العنيف) في الطفل اللطيف، هذا البحث جعلنا ننسى حاجتهم إلى اللعب والترويح، فنحن من يوم ولادتهم، نُلبسهم عباءاتِ الأجداد وسيوفَهم، ونعلمهم لغة الكبار، ونشجعهم على ترديدها، ونحرمهم من اللعب المباح، ونباهي الآخرين بنضجهم المبكر، ونظنَّ أننا أحسنَّا تربيتهم! هذا هو اغتيالٌ للطفولة، لأن الأساس هو أن نترك الطفولة تنضج في الطفل، حتى يصبح سوياً، قادراً على الحياة السليمة، غير المَرَضيَّة!
لا يجب أن نهمل برامج التعليم المسؤولة عن إنضاج الطفولة السليمة، وهي الرياضات، والفنون التشكيلية، والموسيقى، والتمثيل، كلُّ هذه الفنون هي موانع الصواعق، ضد العنف والجريمة، ضد القسوة والتطرف!
إن إغفال برامج موانع الصواعق بحجة أنها مؤذية لصورة الرجل (القوي)، خطيئةٌ قومية، يجب العمل على تجنبها، إذا أردنا أن يكون لنا مكانٌ بين الأمم!