مات البطل… عاش الجبل
لم استطع أن أخرج من المشهد، سيطر على ذاكرتي منذ أن رأيته، الشهيد فادي وشحة، عريس انتفاضة القدس بامتياز، البطل التراجيدي الذي أعدَ النصر ولم يتمتع بالنصر، البطل الذي أعدَ حفل زفافه ولم يزف، البطل الذي خاض اضرابات عديدة عن الطعام في سجون الاحتلال لأجل الحرية ولم يتحرر، بذر دمه وحياته في حقولنا وبحارنا، سقط الزارع بعدما نما الزرع في الجفاف، انتفضت القدس في وجه المستوطنين المتطرفين، انتفضت غزة، هبات وصلوات في باب العامود والشيخ جراح وسلوان والعيسوية والجليل واللد والرملة ويافا والناصرة، دم فادي توسع وامتدَ وتدفق في كل الاتجاهات والى هذا الحدَ صار الشهيد الفلسطيني هو الوطن والمجتمع.
أعدمته قوات الاحتلال برصاصة قناص أصابته في رأسه مباشرة خلال المواجهات التي اندلعت في الأراضي الفلسطينية المحتلة ضد العدوان الدموي على قطاع غزة وعلى مدينة القدس، هناك على المدخل الشمالي لمدينة البيرة أصيب الأسير المحرر ابن بلدة بيرزيت فادي وشحة بأصابة قاتلة يوم 16-5-2021، جلس على ركبتيه كأنه يصلي، كوفيته السمراء المرقطة دلت عليه، هو المطارد الجريح المطرز بالرصاص، الأسير الذي قضى 9 سنوات في سجون الاحتلال، لازال الخاتم في اصبعه، العريس الذي كان ينتظر الزفاف.
بقي الشهيد فادي في العناية المكثفة لمدة 18 يوما حتى ارتقي شهيدا يوم 2-6-2021، انطلق الزفاف الأبيض والزغاريد والأهازيج ورائحة الحناء، حمله طلبة جامعة بيرزيت التي كان يكمل تعليمه العلمي فيها على الاكتاف، شُيع بالهتافات واللافتات والشهادات الجامعية والأوسمة، هتفوا: يا فادي ما أجملك، سنتبعك سنتبعك.
الشهيد فادي وشحة يرفض جلوس الثورة على المقاعد، القدس تتألم، لا شرعية الا للأرض والحجر والطين، كان يخترق المظاهرة، طائر يصل الحاجز العسكري ويبقى تحت قصف الرصاص، الآن يجلس على ركبتيه مصابا، يحدق بكبرياء النسر في جنود الاحتلال الذين احاطوا به، يرفض ان يتزحزح، لقد حقق الشهيد فادي التطابق في المعنى بين الدم والأغنية، بين الموقف والموقع.
عاش الشهيد فادي حياته كلها من أجل لحظة الحرية، كسر القيود من يديه، دق على أبواب السجون طويلا، ودع ابن عمه الشهيد معتز واتفقا على موعد قريب في الآخرة، أعاد انتاج الحرية أكثر من مرة باندفاع وشغف، هي لغة السجين، اهدموا الحيطان الأسمنتية، انتصروا لأبناءكم المعذبين في الزنازين، انتصروا للأسير الغضنفر أبو عطوان المضرب عن الطعام الذي يصارع الموت بإرادة أسطورية، ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة، لهذا نحن لم نخطئ حين أنشدنا من كل القبور المفتوحة : نعم لن نموت ولكننا سنقتلع الموت من أرضنا.
دم الشهيد فادي يصعد إلى جبل صبيح في قرية بيتا قضاء نابلس، يضيء المشاعل فوق الجبل، الإرباك الليلي، التصدي لقطعان المستوطنين وجمعيات الإرهاب الاستيطانية، الجبل يضيء السماء، دم فادي يحرس الجبل، يؤذن فوق الجبل، تراجع المستوطنون، أخليت البؤر الاستيطانية أمام هدير اللحم البشري، انهزمت الرواية الصهيونية التي لم تستطع أن تفك الاشتباك بين القدس وسائر العواصم العالمية، بين الدم والروح والأرض ولغة المقاومة الشعبية.
ألم تسمعوا ما قاله مدير عام رابطة أطباء اسرائيل لحقوق الإنسان ران جولدشتاين: لقد خسرنا، هناك جيل كامل من الفلسطينيين لهم تطلعات وطنية وأكثر من ذلك، ستأتي هذه اللحظة في مرحلة ما إن لم تكن غدا فبعد عام أو عشرة أعوام او عشرين عاما لكن لن تكون لنا حصانة أبدية، هذا الشعب الفلسطيني يبحث عن العدل ويريد الاستقلال، يريد الحرية.
لم يقدر المحتلون على كسر عظام أهل قرية بيتا مثلما حاولوا في الانتفاضة الأولى، لقد دشنوا بطولاتهم وصمودهم بالشهداء والجرحى والأسرى، اضلاع بيتا من صخور ذلك الجبل، هي انتفاضة ثالثة اندلعت في الأراضي الفلسطينية المحتلة، المظاهرات لشعبية الواسعة والمستمرة منذ شهر ايار الماضي اطاحت بفرضيات دوائر التقدير الاستراتيجي في تل أبيب، والتي اعتقدت أن الشعب الفلسطيني يعاني من الاحباط والانقسام والإعياء والملل.
الشهيد فادي وشحة فوق الجبل، يوقد المشاعل، يمتص الحياة من بين الحجارة القديمة ويزرع الأمل، يقطع الطريق على سياسة الاحتلال بتمزيق الأراضي الفلسطينية وتقطيع أوصالها، جسد الشهيد هو الوطن، هذا مذاق الدم المقدس، مذاق الأرض الواحدة، هذا قرصها الدموي، ولا شيء أوضح من دم يسيل على مساحة البلاد الواضحة.
الشهيد فادي وشحة فوق الجبل، لا يمكن النزول الى القاع والانجراف في سيل مخططات الإلهاء الاستعمارية ومؤامرات إغراق الشعب الفلسطيني في الصراعات والتكتلات الداخلية، الكل فوق الجبل، العلو على شرفات الجروح والتناقضات الثانوية، فقد قامت على دمنا دول، ذبحونا الف مرة وحاموا حول الجثث، ليصعد الجميع فوق الجبل، لا شيء يجمعنا سوى ما يسكبه الشهيد في حياتنا الباقية.
الشهيد فادي وشحة، هذا مذاق الأرض في يدك اشتعل، مات البطل، عاش الجبل.