«حتّى تظل جذوة التعليم مستمرّة» إبداعياً
مقالات

«حتّى تظل جذوة التعليم مستمرّة» إبداعياً

لعلّه الشغف!
الطفل شغوف، فإذا تعلّم بهذا الشغف أحبّ التعليم، وانتفع منه وأبدع فيه، وحقّق أهداف المعلمين والخبراء.
كنّا أطفالاً ذات يوم، وكبرنا فصرنا معلّمين ووالدين، فهلاّ تذكّرنا ما كان يوما؟ ما كُنّاه؟
من أفضل الطرق لفهم معنى شغف الطفل المتعلّم، هو أن يقصّ كلّ منّا قصّته، منذ صافح بصره فضاءات المدرسة، وسمعه لصوتها، وشمّه لروائحها، ولمسها بأطرافه.
لذلك أعجبني نحت عبارة العنوان، التي أطلقها دكتور مروان عورتاني وزير التربية والتعليم مع بداية جائحة كورونا، وودت أن تكون من قبل ومن بعد، لما تحمله من دلالة عميقة، تعني التعلّم اللحظي. ولعلّه أعادني إلى المعاجم العربية، للاطلاع على الدلالة اللغوية لمعنى «الجذوة»، والتي في العادة ترتبط بالمشاعر.
فالجذوة «هي الجمرة الملتهبة، وكل قطعة ملتهبة مادياً أو معنوياً، جمرة ملتهبة، قطعة من النار، وتعني جول الفحم إِلَى جُذىً، بإيراد الآية 29 من سورة القصص: «لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ». كما جعل آخرون من بيت شعر بدوي الجبل «ولا تحرميني جذوة بعد جذوة   فما اخضلّ هذا القلب حتّى تلهّبا» شاهداً دلالياً.
لربما عمّقت جائحة كورونا كشفها الكثير من مجالات الحياة، ومنها بالطبع واقع التعليم وحاجات المتعلّمين. وأظنّ أن منطلقات الوزير الفكرية تجاه تجليات إبقاء جذوة التعليم حيوية تنبع من أهمية المعرفة للبقاء، ولعلّه، من فهمه لعالم الطفل وحبّه للنشاطات على اختلاف أنواعها، فقد جعلها لتكون وسيلة تقرّب الأطفال-الطلبة، تجاه المعرفة، وذلك من خلال التفاعل عن بُعد بسبب سياق الجائحة.
ولو تأمّلنا ذلك، على ضوء العملية التعليمية، فإننا يمكن أن نقرأ أهمية مشاركة الطلبة فيما يحبّون تعلّمه، وهذا ما ينسجم مع ما كرّره الوزير عورتاني، في أكثر من مناسبة، عن ضرورة وجود رأي للطلبة فيما يتعلّمون، على ألا يكون ذلك موسمياً، بل ضمن سياسة أصيلة في مختلف جوانب العمل التربوي، كالمناهج والنشاطات، وربما في الأساليب. (وهذا المفهوم يحتاج الى بحث وتشكيل مجموعات عمل مركّزة يتم فيها الاستماع للطلبة، وربما التعرّف بشكل مباشر وغير مباشر على آرائهم، ومعرفة قريبة لتوجّهاتهم. ولعلّ وضع أنفسنا مكانهم ومكان المعلمين/ات، مع مراعاة اختلاف الزمان، سيساعد في جسر الفجوة بين الأجيال، وتخفيف اغتراب الطلبة تجاه المدرسة، بشكل خاص، والمجتمع بشكل عام. ولربّما هذا ما قصده في الإشارة الى «التعلّم من تجاربنا»، التربوية والإنسانية فردياً وجماعياً، بتوظيف حيوية ما نحته من اصطلاح جميل، هو «التعددية الفطرية».
ضمن فهمه، لأفضل الطرق في تطوير العمل التربوي، فقد رأى أن ذلك يتم بنيوياً، بحيث يتم وضع مدخل معيّن، نحصد ثمار مخرجاته في أكثر من مكان ومجال. وهكذا فكل ما له علاقة بالتعليم والتعلّم من جزئيات، ستكون ضمن إطار ناظم.
«الصدق، والتواضع، والبساطة»، ثلاث قيم، ونظنّها أيضاً وسائل، ذكرها في حديثه لجمهور متنوّع من التربويين، في مؤتمر حول المنظومة التربوية، وهذا يدلّ على عمق فكري تأمّلي، هو نتاج خبرة طويلة له، تضعه في مصاف المفكرين التربويين.
وقد كان الوزير جريئاً، بل وثورياً، حين تحدّث بصراحة غير معهودة من قبل، عن أهمية التدريب على عمليات التعليم تخطيطاً وإدارة وتطويراً، على غرفة الصف إيجاباً، فإنّه يحقّ لمقيّمي برامج التطوير أن يشكّوا بأن ثمّة مشكلة واضحة في الرؤية.
«العلم شيء وتعليمه شيء آخر»، كان هذا المفهوم ضمن حديث عورتاني، وهو رغم أنه من أساسيات العمل التربوي، إلا أنه يشكّل تحدياً يومياً، فالعالم والعارف يحتاج لأسلوب في الوصول، لذلك فإن المعلم يعي هذه المسألة، وهو يحاكي الأساليب الناجحة ويجتهد، لإثبات نفسه تربوياً من ناحية، ولرغبته في إتمام دوره ثانياً.
فإذا كان المعلم متمكّنا من تخصصه وأساليبه، فإن ذلك يسهّل عليه المهمة، لأن «الفاهم» يفهّم، يبقى أن يحسن الاتصال مع الطلبة والتعامل معهم. فلا ينبغي للمعلم تشخيص الطالب بـ «لا بِقرا ولا بِتبّع»، حيث إن أنسنة التعليم تقتضي جعله يقرأ ويتابع. وفي كل ذلك فهو إن سعى إلى تعليم الأطفال بهدوء وحبّ مثيراً تفكيرهم للفهم أولاً والتساؤل ثانياً، وألا ينتقل إلى مفهوم جديد إلا بعد الاطمئنان إلى هضمهم للمفهوم السابق، نكون قد وضعنا إصبعنا على أهم أسس التعليم عبر التدرج والتراكم المعرفي. كذلك فإن التعامل الإنساني مع الطلبة، وجعلهم أنداداً لبعضهم بعضاً، يجعلهم لا يصغون فقط للمعلم بل لبعضهم بعضاً، فتتكون لديهم معلومات وخبرات هي محصلة ما لديهم كمجموعة، لذلك فإن المعلم الذي يعلم ويحاور، ويدير تبادل الخبرات بل والمشاعر بين طلبته، سيحببهم للمبحث وللمدرسة، وسيجعل منها مكاناً محبباً أيضاً، تتكون فيه الزمالة الجميلة والصداقات، والسرور، فتصير غرفة الصف غرفة محبة واحترام، وقضاء وقت ممتع، تدفع الطلبة على تفاوت مستوياتهم على التفاعل مع المعلم وفيما بينهم ومحيطهم من الغرفة حتى الكون. وهنا، سيصير وضع المعلمين والطلبة على قطار الحداثة، والتعلم عن بعد عبر منصات متنوعة، مضموناً في ظل ضمان الإصغاء والتفاعل، فلن يسير القطار بنا وبهم إذا لم يكن وقوده النهوض بالتعليم الوجاهي المعروف. وهنا فقط يمكن أن يكون لاستحقاقات التحوّل الرقمي معنى، كونه وسيلة تعليمية ليس أكثر، أما التحولات الحقيقية، فهي التحولات السياسة والاجتماعية والاقتصادية، والتي تحتاج لسياق فكري آخر، يبحث عن أثرها على التعليم، ودور التعليم في الاشتباك معها لتقليل الصدمات والتوترات، والسعي كي يكون الطلبة مخرجات ديمقراطية تنهض بالمجتمع مستقبلاً، تنسجم مع ما يتطور يومياً من ملكة الفهم والتفكير النقدي.
أما العنصر المهم في المنظومة فهو المدير، الذي يتعامل مع «تنوع الطلبة والمعلمين والأهالي»، ومن المهم أن يرتبط إدارياً وتربوياً «بنظام رشيق متناغم غير بيروقراطي»، فالإدارة غير منقطعة عن مضمونها. وهنا يتجلّى المعنى الذكي والنبيل لما صار يطلق عليه بالحوكمة.
وهنا، فإن التعامل مع الأطفال والفنيان- الطلبة (تحت سن18 عاما هم أصلا أطفال) يعني أن يمتد الشغف نحو المستويات المختلفة في الإدارة، ويمكن للمتابعة، والاطلاع على فنون الطفل وأدب الطفل التي يحبها الأطفال، أن تكون بوصلة للتربويين، وهم أصلاً آباء وأمهات، وكان بعضهم أو أكثر معلمين، لكنهم جميعاً كانوا طلبة.
فإذا كان ليس من السليم على الإطلاق محاكاة النماذج الناجحة عالمياً، بسبب سياقاتها الاجتماعية والثقافية، وخصوصياتها في الحكم والإدارة، فإنه سيكون محاكاة ما هو تقليدي ليس سوى عزف على النغم الرئيس، ألا وهو إعادة إنتاج ليس فقط نظمنا الشمولية، بل أنفسنا كمخرجات تقليدية لتلك النظم، والتي يشكل النظام التربوي فيها أحد أهم عناصر التكوين والبرمجة والهندسة الفكرية. لذلك، فإنه فكرياً وفلسفياً، هناك أهمية قصوى لفحص بروية دون أحكام مسبقة، للمعنى الحقيقي للعلمنة والحداثة، حيث ما أن يتم ذكر ذلك، حتى يذهب الفكر التقليدي الى المعاداة والاتهام بأن ذلك يعني الاعتداء على الدين وفصله عن الحياة.
وهنا، سنبدأ عملياً واستراتيجياً، بجذب الطلبة-الأطفال والطفلات نحو تربية وتعليم جذابة، لا يغتربون إزاءها، فيضطرون للبحث عن بدائل، قد لا تكون آمنة دائماً.
وأختم: بأن هذا التفكير العميق سيكون ذا أثر ان وجد تجليات له في أروقة المدارس وغرف الصف، وفي الشارع أيضا..والأهم، ما سننشئه من مواطنين/ات وقادة، يتجنبون أخطاءنا، ويبنون على الناجح منها.
إن لم نفعل، فأمامنا طلبة ومعلمون (وأهالي عشرينيون وثلاثينيون)، سيرتدون عنا، باحثين عن طرق بديلة، في التعلم والحياة، فإما أن نكون معهم وبهم وفيهم، وإما أن يتجاوزونا، فيصبح دورنا واهنا..وأكثر وهناً..
نبصر، ونسمع، نقرأ ونفهم، ونناقش، نذوت المعرفة، نفكر، ونكتب، تسمو مشاعرنا، نختلف لكن لا ننفعل.. بإمكاننا أن نساهم بذلك، بأن نبدأ من هنا: من أنفسنا أولاً.. ونتذكر دوماً بوصلتنا:
كنا أطفالاً وطفلات ذات يوم.
مرة أُخرى: هل نسعى حتى تظل جذوة التعليم مستمرّة»؟
لنفعل ذلك. إننا قادرون وقادرات صغاراً وكباراً، صحيح أن هناك استحقاقات وشروطاً، لكنها ليست مستحيلة أبداً..

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.