في خضمّ ثلاثية القطبية الدولية: الصين الواثقة (3 من 4)
بمناسبة الذكرى السنوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني، ألقى الرئيس شي جين بينغ في 30/6/2021 خطاب تحدٍّ أبرز فيه ما حققته بلاده بقيادة الحزب من إنجازات داخلية هائلة، نقلت الصين من دولة فقيرة ومنتهَكة الحقوق، إلى أن تصبح دولة قوية وقادرة، وفي طريقها للوصول إلى قمة هرم النظام الدولي. وأكدّ شي على ديمومة وتصاعد أعمال النهضة التي حققتها بلاده، معتبراً أن الصين انطلقت في «مسيرة تاريخية لا رجعة فيها». وبنبرة الواثق والحازم الذي يعكس مشاعر الفخر الوطني للصينيين على ما حققوه من تقدمٍ مشهودٍ لبلادهم خلال فترة زمنية قصيرة، أطلق الرئيس الصيني تحذيراً حادّاً جاء بصيغة عامة مفتوحة، ولكن يُستشف منه أن المقصود به هو الولايات المتحدة، ينبّه فيه أن زمن التنمّر على الصين قد انتهى للأبد. ومن خلال استذكاره ما عانته بلاده من استعمار غربي وحروب أفيونٍ واحتلال ياباني، خلال فترة ما أصبح يُعرف بـ «قرن الإذلال» (1839-1949)، استخلص شي أن «الزمن الذي كان يمكن فيه أن يُداس الشعب الصيني وأن يعاني وأن يُضطهد... قد ولّى إلى غير رجعة». وبصيغة تقريرية، وجّه الرئيس الصيني تهديداً صريحاً ومباشراً لمستهدِفي الشعب الصيني بأنه «لن يُسمح لأي قوة أجنبية بالتسلط عليه أو قمعه أو إخضاعه»، ليس هذا فحسب، وإنما ذهب في تصعيده إلى توعّد «كل من يجرؤ على القيام بذلك ستُسحق رأسه وتُخضّب بالدماء على سور الفولاذ العظيم الذي صنعه ما يربو على 1.4 مليون صيني».
مع أن هذا الوعيد الواضح يبدو صارخاً، إلا أنه لا يخرج عن سياق شعور الصين المتزايد بالثقة بنفسها وبقدراتها، وهو شعور ابتدأ بالظهور للعلن مع تسلّم الرئيس شي لمقاليد الحكم عام 2013، وترسّخ في التقرير الذي قدّمه للمؤتمر الوطني التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني في 18/10/2017، والذي اعتُمد وثيقة إستراتيجية تُحدد أولويات الأمن القومي الصيني منذ ذلك الحين. في ذلك التقرير، أعلن شي أنه، بخلاف الوضعية سابقاً، لم يعد ضرورياً للصين الاستمرار بمداراة طموحها والتستر على مسيرة صعودها، إذ إن لديها الحق والقدرة عن الإعلان عن نواياها في «تحقيق حلم الصين المتمثل بالنهضة العظيمة للأمة الصينية بكل قوة وشجاعة، وعصر اقتراب بلادنا من صدارة المسرح الدولي يوماً بعد يوم، وتقديم إسهامات أكبر للبشرية».
لم يعد سرّاً، إذاً، أن الصين دخلت معمعان المنافسة على صدارة النظام الدولي، متحدية بذلك المنظومة الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية. المهم في الأمر أنها وهي تُعلن عن ذلك صراحةً فإنها، بخلاف روسيا، تمتلك من المقدرات والإمكانيات ما يؤهلها ليس فقط لخوض هذه المنافسة، وإنما يمكّنها من احتمالية قوية للفوز فيها. فالصين تمتلك مخزوناً حضارياً ممتداً لآلاف السنين، مع إيمان عميق وقناعة راسخة عند الصينيين بمحورية مكانتهم في العالم، وقوة ثقافتهم، وإيجابية منظومتهم القيمية، المستمدة من متانة أيديولوجيتهم المركّبة من تزاوج عناصر محفِزّةٍ من الكونفوشية والطاوية والماركسية - اللينينية والماوية. يقف هذا الإرث الغنيّ دافعاً للصينيين للإيمان بأنهم حملة رسالة مفادها أن عليهم تقع مسؤولية محاولة تحسين العالم، من خلال قيادة مشروع سلمي تشاركي وتعددي، تتلاقى فيه الثقافات، وتتلاقح في إطاره الحضارات، ليحقق السلام والأمان والرخاء للجميع.
إضافة إلى ذلك، تمتلك الصين مقدرات مادية ضخمة ووافرة، فلديها أكبر مخزونٍ بشري في العالم، بما يمنحه ذلك لها من إمكانيات طاقة بشرية منتجة وخلاقة. وهي رابع دولة في العالم من حيث المساحة، ما يوفّر لها الكثير من المصادر الطبيعية. أما موقعها فهو إستراتيجي فيما يتعلق بخطوط التجارة الدولية، وخاصة البحرية. وفوق كل ذلك، حوّلت الصين نفسها خلال فترة أقل من نصف قرن إلى ثاني أكبر اقتصادٍ في العالم، وهي ستوازي أميركا في المرتبة الأولى، وقد تتخطاها، مع نهاية هذا العقد. ومع أن حجم الاقتصاد مسألة في غاية الأهمية، إلا أن ما يفوق ذلك بالاعتبار هو ما يتعلق بنوعية الاقتصاد، والاقتصاد الصيني أصبح جزءاً مندمجاً في الاقتصاد العالمي، ولا يتجزأ عنه. بل على العكس، توجد درجة عالية من الاعتمادية بين اقتصاد الصين واقتصاد العالم، بما فيه الاقتصاد الأميركي. باختصار، لم يعد بالإمكان دوران عجلة الاقتصاد العالمي دون المشاركة الصينية فيه.
أتاحت العوائد العالية للصين من اقتصادها المزدهر فتح المجال أمامها لتسريع عملية بناء قواتها المسلحة، والتي تُعلن الصين أنها ستكون في أعلى المراتب العالمية، كفاءة وتجهيزاً، بحلول منتصف القرن الحالي. هذا يعني، وكما ورد في تقرير الرئيس شي، أن البلاد تتجه بثقة لتحقيق مصيرها بأن تكون دولة عظمى بحلول منتصف القرن الحالي، وأن لا قوة في الدنيا تستطيع منع الصين من تحقيق مصيرها.
تقوم رؤية الصين لدورها العالمي على القناعة بعدة مبادئ أساسية. أولها، مبدأ التعددية الذي بموجبه تؤمن بكين بعدم وجود سبيل واحد لتحقيق التنمية والرخاء في العالم، بل بوجود عدة سبل. ما يعنيه ذلك أن الصين تتحدى الرؤية الغربية التي سعت دائماً لفرض نموذج التحديث الغربي كسبيل إجباري وحيد على بقية العالم، ما يعني إبقاء الدول غير الغربية تلهث في عملية لحاق مستمر لغربٍ متفوقٍ عليها بشكل دائم. على عكس ذلك، تطرح الصين نموذجها الذي أوصلها إلى ما هي عليه الآن من تقدّم، والقائم على «الاشتراكية ذات الخصائص الصينية»، الذي يمزج بين عناصر من تحرير الاقتصاد واشتراكية النظام السياسي، كخيارٍ متاح لمن يرغب في العالم أن يتبناه، دون فرضٍ أو إكراه. يستهدف هذا الطرح، الذي يُقدّم بديلاً للنموذج الغربي للتحديث فكفكة الهيمنة الغربية، بقيادة أميركا، على العالم، وتقويض احتكار الحضارة الغربية لمعايير التقدم والحداثة العالمية.
أما ثاني المبادئ فهو الجماعية، إذ تشدد الرواية الصينية على أهمية تحقيق «الفوز المشترك» للجميع، وليس تحقيق فوزها على الجميع. لذلك يشدد الخطاب الصيني على التزام بكين بالسعي الدائم لتحقيق الانسجام والتناغم والتعاون بين دول العالم، في سبيل تحقيق المنفعة المتبادلة والازدهار المشترك للجميع. من هذا المنطلق تدعو الصين لنظام دولي جديد يكون قائماً على العلاقة الأفقية التي تتساوى بموجبها جميع الدول، كبيرها وصغيرها، ليحلّ مكان النظام الدولي الحالي القائم على عمودية وهرمية العلاقة، يقبع على رأسه أميركا وحليفاتها الغربية، التي تتحكم بغيرها من الدول التي تقلّ عنها في المنزلة التراتبية، وصولاً لقاع الهرم. ولذلك، تُشدد الرؤية الصينية على أهمية التعاون الدولي في إطار المؤسسات الدولية، كالأمم المتحدة التي تولي مكانتها ودورها أهمية خاصة، إلى جانب تطوير الروابط الإقليمية، وتعزيز العلاقات الثنائية التي تربط الصين بمعظم دول العالم. وفي هذا الشأن، تستخدم الصين إمكانياتها، خاصة الاقتصادية، لتمتين علاقاتها الارتباطية، وخصوصاً مع الدول النامية.
وثالث المبادئ هو الاعتمادية، فالصين تؤمن بأن العالم أصبح منفتحاً وشديد ارتباط أطرافه ودوله بعضها ببعض، ولدرجة عدم إمكانية أو فائدة تقسيمه وعزل مكوناته عن بعضها. وعلى هذا الأساس، تقف الصين معارِضة ضد النزعات الانعزالية، وتدعم بالمقابل التوجهات الارتباطية المعزِّزة للانفتاح المعولم الذي يزيل الحواجز والقيود عن حرية حركة الأفراد والموارد والبضائع. وفي هذا الصدد تكون الصين أكثر ليبرالية من مناهضاتها الغربية التي قامت أصلاً على أسس الفكر الليبرالي.
ورابع المبادئ هو السلمية، فالصين تعلن جهاراً وتكراراً أنها لا تحمل إرثاً استعمارياً، كالدول الغربية، بل هي عانت من وطأة التعرض للاستعمار والاحتلال، وبالتالي ليس لديها أي نوايا عدائية لأحد. وتصرّ على أنها لن توظّف قوتها العسكرية لتهديد الغير، كون أنها ليست ذات نزعة توسعيّة، وليس لديها أي رغبة في الاستحواذ على أراضي الغير بالقوة، ولا تؤمن بالتحالفات العسكرية. فقوتها العسكرية ذات عقيدة دفاعية، والقوات الصينية المسلحة لن تتوانى عن الدفاع عن البلاد، ولكنها لن تقوم بحروبٍ توسعية. وانسجاماً مع ذلك، تدعو الرؤية الصينية إلى ضرورة إشاعة أواصر التفاهم والاعتدال في العالم، وفضّ النزاعات سلمياً، بالاعتماد على الدبلوماسية الهادئة وذات النَفَس الطويل.
هذه المبادئ تُعطي صورة وتترك انطباعاً إيجابياً لدى الكثيرين في العالم عن الصين. وإذا ما رُبط ذلك مع محاولاتها للتغلغل الاقتصادي في العالم، والذي جمعته في إطارٍ موّحد ضمن ما أصبح يُعرف بـ «مبادرة الحزام والطريق»، التي تسعى من خلاله حالياً لربط حوالى سبعين دولة بالصين، فإن هناك الكثير مما يُثير حفيظة الولايات المتحدة التي لا بدّ وأنها تستشعر بوجلٍ إمكانية خلخلة مكانتها العالمية. ولذلك، تولي واشنطن الكثير من الاهتمام، وتقوم بالكثير من الأفعال، لحصار الصين والحدّ من الوتيرة المتسارعة لصعودها وتقدمها، وبالتحديد في المجالَين التقاني والذكاء الاصطناعي.
رغم هذا الاستهداف الأميركي المكثف، تبدو الصين واثقة بنفسها، ومتحدّية بمسارها، غير آبهةٍ لما تتعرض له من حملاتٍ غربية. المهم في الأمر أن الصين، التي حتى الآن متماسكة، تعاني من مواطن ضعفٍ داخلية، حتى وإن لم تعترف بذلك علناً، وخصوصاً في مجالات ضمان الحريات والعدالة الاجتماعية والتنمية المتكافئة. وسيكون نجاح مسعاها في تبوء المكانة العالمية التي تبتغيها مرهوناً بقدرتها، ليس فقط في استمرار نجاحها في مواجهة الاستهداف الخارجي الموجّه ضدّها، وإنما في قدرتها على معالجة مواطن ضعفها الداخلي أيضاً.