هل من مخرج من المأزق الوطني الراهن؟
على مدى الأسابيع الماضية، شاركت وتشاركت القوى والفصائل والمنظمات السياسية والاجتماعية والأهلية، ومئات وربما آلاف من الكوادر، من الشخصيات الوطنية، ومن جمهور واسع للغاية، عَبر مختلف وسائل التواصل الاجتماعي والسياسي المباشر، وعَبر أشكال متنوعة من التفاعل النشط، وأحياناً المحموم أيضاً. فيما يمكن اعتباره حوارات ونقاشات، فردية وشخصية وكذلك جماعية، داخلية وعلنية بهدف واحد ووحيد وهو البحث عن مخرج «ما» من المأزق الراهن.
إذا استثنينا ـ ونحن يجب أن نستثني ـ تلك القوى والمنظمات وبعض «النشطاء» الذين لديهم طاقة يحسدون عليها من «الرقص» على كل دف، فإن الغالبية العظمى من الذين شاركوا في هذه الحوارات والنقاشات قد انطلقوا، وما زالوا ينطلقون من اعتبارات وطنية حريصة، ومن اعتبارات ديمقراطية غيورة على المشروع الوطني، وعلى المصالح الوطنية، ومن خوف على هذا المشروع، وهذه المصالح، حتى وإن بدت الأمور أحياناً وكأنها خارج نطاق هذه الاعتبارات والمنطلقات.
وبالتالي وتأسيساً على هذا فإن أولى بديهيات أي اعتقاد حول دور الأجندات الخارجية، أو المؤامرات، أو غيرها من الهواجس ينتفي بالكامل إذا لم يتم الاعتراف بضرورة هذا التفريق بين الحريصين فعلاً على المشروع الوطني وبين المتحارمين عليه، أو الذين يعادون هذا المشروع ويعملون ليل نهار على هدمه وإسقاطه، بصرف النظر عن النوايا، وبصرف النظر عن معرفتهم من عدمها في خدمة المشروع المناوئ والمعادي لشعبنا وحقوقه وأهدافه.
وحتى الذين تظاهروا وعبروا بكل أشكال التعبير المشروعة، والتي يتضمنها القانون الأساسي، وقبله وثيقة الاستقلال، وحتى الذين «بالغوا» أحياناً في أشكال ومضامين هذا التعبير من الحريصين على مشروعنا الوطني، وجزء كبير منهم لهم باع ويد ومساهمات وطنية مقدرة في بلورة هذا المشروع والدفاع عنه ـ فهم شركاء أصيلون في المشروع الوطني، ولا يحق لكائن من كان أن يخرجهم من هذا الموقع أو الدور ولا حتى المكانة، إن لم نقل إن أي قيادة حكيمة تقوى بهذا الدور وهذه المكانة، وقد تكون معارضة كهذه هي أحد متطلبات العمل الوطني الديمقراطي الأساسية، وأحد أهم شروط نجاح النظام السياسي وفعاليته.
دون الاعتراف بذلك ودون هذا التفريق لا يستوي الحديث عن أي مؤامرات أو أجندات أو ارتباطات، بل يصبح الحديث عنها هو إمعان في حجب الحقيقة، وتوغل في الخطأ وتغافل عن الحقيقة واستغفال للناس وعقولهم وثقافتهم وخبراتهم ونضالهم وتضحياتهم.
وهذا ما يمكن اعتباره الاستنتاج الأول الذي نتج عن الحوارات المشار إليها، وعن الرؤى التي تمخضت عنها هذه الحوارات كما تابعتها.
أما الاستنتاج ـ الذي لمسته من هذه الحوارات ـ أن إنكار الواقع، وعدم الاعتراف بأن لدينا من الأخطاء والخطايا ما يهدد المشروع الوطني، وبمقاييس قد تفوق كل «التهديدات» الخارجية سيؤدي فقط إلى تفاقم المأزق.
صحيح أننا في الأيام الأخيرة بدأنا نلمس بعض «الاعترافات» الأولية، والتي ما زالت خجولة وجنينية، بأننا نعترف ببعض هذه الأخطاء، لكن الأمر لا يمكن أن يستوي أو يستقيم بهذا المستوى «العابر» من الاعترافات.
ما يهم القوى والشخصيات والناس عموماً هو أن يلمسوا، أن هذا الاعتراف بالخطأ بات مشخصاً، وبات محدداً في الخلفية والأسباب، وبات واضحاً في جوانبه التي تتعلق بالإهمال والارتجال، والأهم أنه بات ملاحقاً ومراقباً إذا كان ينطوي على أي شبهة فساد من أي نوع كان وعلى أي مستوى كان.
وأما ثالث هذه الاستنتاجات فهو أن قسماً كبيراً من الناس كانوا ينتظرون أن لا يتم أي تأخير في توضيح المواقف، وفي شجاعة الرد على الأحداث، دون أن تترك للتأويل والأقاويل، وأن تتم المسارعة إلى مواجهة الأحداث بروح تحمل المسؤولية وبسرعة الاستجابة، وبما ينزع فتيل اشتعال الأزمة قبل فوات الأوان.
ويرى البعض أن التأخر في الاستجابة السريعة بالرد عليها من خلال المواقف والإجراءات والتحمل المباشر والسريع للمتطلبات والمسؤوليات قد فاقم من المأزق، وسرع في أن تأخذ بعض الأحداث اتجاهات خطرة، وفي أن يتم «استثمارها» من قبل من هم في الواقع أبعد ما يكونون عن الديمقراطية، وعن الحريات بأنواعها، وعن حقوق الإنسان، بل من هم في هذا الواقع يقفون ضد كل هذه القيم من حيث المبدأ، بل ويجاهرون بالعداء لها، ناهيكم عن ممارساتهم المفضوحة في مواجهتها.
أما رابع هذه الاستنتاجات ـ وهو استنتاج على أعلى درجات الأهمية والراهنية والإلحاحية ـ فهو أن السلطة الوطنية الفلسطينية، وكذلك منظمة التحرير الفلسطينية، ومجمل النظام السياسي الفلسطيني والمجتمع الفلسطيني برمته يمكن أن يكونوا على عشرات أضعاف قوتهم الحالية في حالة إن كان هذا المجتمع يتمتع بنظام سياسي ديمقراطي وكفؤ وفعال، وفي حالة إن تمكن من بناء نموذج ديمقراطي حقيقي.
فلا الغرب ولا إسرائيل ولا النظام الإقليمي العربي وغير العربي يستطيع «الضغط» على الشعب الفلسطيني في حال كان لدينا مثل هذا النظام، والحقيقة أن العكس هو الصحيح.
فنحن في الواقع من سنكون في موقع الضغط عليهم، ونحن سنكون في مطلق الأحوال أقوى وأقوى بكثير مما نحن عليه الآن، وبما لا يقاس، أو على الأقل سنكون في وضع لن يتمكنوا من خلاله من ممارسة الضغوط علينا بنفس الدرجة التي يستطيعون أن يمارسوها علينا في وضعنا الراهن، وستكون الضغوط ليس أقل أهمية وتأثيراً مما هي عليه الآن، بل ويمكن أن تتحول هذه الضغوط إلى سلاح بيدنا وليس بأيديهم، وإلى نقطة قوة، أو نقاط قوة بأيدينا بدلاً من أن تكون بأيديهم.
ولا يتعلق الأمر بالضغوط المالية والاقتصادية فقط، وإنما وأساساً فيما يتعلق بالجانب السياسي على وجه التحديد والخصوص.
أما فيما يتعلق بالمعادلة الداخلية، وهي المعادلة الأهم وليس لأي معادلة خارجية ما هو أهم منها على الإطلاق، فإن بناء نموذج ديمقراطي كفؤ وفعال كفيل، وقد كان كفيلاً منذ زمن بعيد، بأن ينهي الانقسام، وأن ينزع عن كل الانقساميين أي شرعية، وأن يعرّيهم ويسحب الغطاء الوطني عنهم، وأن يضعهم في أزمة لا مخرج منها سوى التداعي والتلاشي، أو البقاء فقط بقوة الدعم الخارجي بما في ذلك الدعم الإسرائيلي المباشر.
لقد أضعنا «فرصة العمر» لأننا لم ندرك، ولم نعمل على بناء مثل هذا النموذج.
كان بناء هذا النموذج هو المخرج الاستراتيجي من كل أو معظم الأزمات التي مررنا بها، والتي نمر بها اليوم.
بل إن بناء هذا النموذج هو الذي كان سيؤمّن لنا الصمود، ويؤمّن لنا الوحدة، وهو الذي كان سيصنع من التحديات التي وجدنا أنفسنا في صلبها جراء «أوسلو» وتبعاته مخرجاً، وكان يمكن أن نخرج من كل الأزمات بأقل الخسائر، إذا كان صعباً أن تتحول هذه التحديات إلى فرص وطنية كبيرة.
الذي نحتاجه للخروج الحقيقي من هذا المأزق هو المراجعة الجادة نحو إعادة بناء نظامنا السياسي، بما يصل إلى النموذج الديمقراطي، وإلى مراجعة جادة في إعادة قراءة مشروعنا الوطني في ضوء ما وصلت إليه المعادلة الوطنية والإقليمية والدولية، وما رست عليه من الحقائق والوقائع، وفي ضوء ما بتنا نواجه من تحديات بات يفرضها التحول الهائل نحو التطرف ونحو التوحش في أطروحات وسياسات المشروع الصهيوني.
«معجزة» الخروج من المأزق الراهن مفتاحها هو الحوار، وبوابتها العريضة هي المشروع الديمقراطي للنموذج الديمقراطي، وآليات العمل المطلوبة هي المراجعة والتقييم، وضمانة النجاح هي تجديد شرعياتنا على قاعدة الانتخابات الديمقراطية التي تتيح للأجيال الشابة الجديدة فرص الانخراط في بناء هذا الصرح الوطني الكبير.