مـن قـتـل أسـمـهـان!
مقالات

مـن قـتـل أسـمـهـان!

يقل كل يوم من يعرفها، بالنسبة لعدد السكان طبعا، ويقلّ السؤال، لكنها تبقى خالدة ويبقى السؤال ويتعمق متجاوزا لشبهة جريمة إلى جريمة كاملة تستمر بحق الشعوب والجمال والفن.
ترى لم عاد بنا الفنان أمير نزار الزعبي إلى الوراء 77 عاما؟ تزداد الأسئلة مع الحياة، فلنشابك معها ما بقينا.
عندما تعلمنا اللغة أطفالا تعلمنا أن هناك فرقا بين التعجب والاستفهام، حين كبرنا، عرفنا أن هناك فروقات بين أنواع الاستفهام.
سألني صديق: أي أغنية حين تسمعها، لا تستطيع أن تشرك معها أي فعل أو قول؟ فقلت له: ليالي الأنس!
77، عاما والقصة لم تنته، لا قصة رحيلها المفجع، بل قصة حياتها وحياتنا؛ فأي حضور هذا الذي يزداد بريقا.
وهل أسمهان هنا في هذا العمل الفني المميز، هي فقط أسمهان المطربة التي نعرفها، أم أنه يمكن أن تكون موحية رمزيا، للجمال والحرية، والحب؟ والوطن أيضا!
من هؤلاء الذين تتهمهم أسمهان بعد رحيلها بقتلها؟
هم: المحيط الاجتماعي العائلي في الشام ومصر، وهم المحيط السياسي المصري بما فيه من تداخل العلاقات العاطفية، وهم الوسط الفني بما فيه من تنافس وتناحر على المال والشهرة، وهم المتدخلون الدوليون ممثلو الدول العظمى وما ترتبط صراعاتهم بعالم الجاسوسية.
وهو لا يقف عند مجرد القتل المادي، بل لعله القتل المعنوي، في ظل عدم احتمال هذا الجمال والذكاء لامرأة فنانة، لم تقف الظروف القاهرة أمام إبداعها.
لقد تشابكت الغيرة الذكورية، مع الغيرة النسوية، في المستويات الاجتماعية والسياسية والدولية عبر مستوى ممثلي الدول القوية (بريطانيا وألمانيا، وفرنسا..)، مع الغيرة الفنية، فكان محصلة هذا الدفع والتدافع هو خنقها ونفيها، بما يؤكد على أن المنظومة العامة السائدة في مصر وبلاد الشام، هي التي فعلت فعلها المشين.
لقد حسمت أسمهان، أو ما تحدث به الكاتب على لسانها، متخيلا لقاء في الجنة بعد الموت، حسمت الجواب قائلة: «كلهم قتلوني، أنا كنت فوق احتمال العالم ده.. أنا كنت ست بين عالم رجالة لكنني كنت بتبع قلبي». فهل عبارتها تقف عند حد نقد الذكورة؟ أم تمتد لنقد النظم، التي تستهين بالمشاعر؟ وهنا كان القصد هو القتل المعنوي، حيث نراها تموه الإجابة، أو تعود لسبب الوفاة، حين أعاد المحقق سؤاله: «قتلتني مياه النيل». وقد انسجم عدم التحديد، بنفي المحقق أيضا لدفن أي دليل ولو من بعيد يشير إلى أي أحد هنا ضمن المنظومة، وممثلي الدول الكبرى.
والآن، يضعنا نزار الزعبي ليس في الماضي الذي راح لطريقه، بل في الحاضر والمستقبل، في ظل استمرار المنظومة التقليدية غير المتحررة، المستبدة والتي تجد نفسها صاحبة الوصاية، وهي المعادية للمرأة، والفن، والجمال والحرية، في ظل تبعيتها للقوى الدولية، تلعب بها كما تشاء.
وأنه في رؤيته الإخراجية يسخر من منظوماتنا، عبر كوميديا راقية، مؤكدا على أن الفن الجميل ظل خالدا؛ فعلى مدار ساعة ونصف، كنا مع هذا الجمال المسرحي، المطعم بالغناء، والكوميديا الراقية الهادفة، لنتابع مأساة رحيل الفنانة الكبيرة أسمهان، التي تم نفيها من الحياة وهي في مقتبل الثلاثين. لقد جذبتنا المسرحية، بكل عناصر الجمال، من خلال تشويق بوليسي، وجماليات الديكور والسينوغرافيا، الذي تم توظيفه لخدمة الدراما التي أعدها وأخرجها بذكاء الفنان الشاب نزار الزعبي.
امرأة جميلة، ومطربة مميزة، عاشت حياة قلقة، تعرضت لحادثة، لم تثبت إن كانت حادثة فعلا أو أن هناك شبهة جنائية، تم فيها التحقيق مع عدد من الشخصيات. وقد انعكس ذلك فعلا في الرؤية الإخراجية، حيث يصير التحقيق مجالا للسرد المسرحي لأحداث حياتها، في حين أظهر الإخراج تلك العلاقات المتشابكة، عارضا ليس الاتهام، بل العلاقات التي وجدت أسمهان نفسها فيها. وكان من الطبيعي وجود والصحافة، والغناء، والرقص، والبلاد بلهجاتها، وممثلي الدول من أجهزة مخابرات، وقطارات.
الأحداث: وضعنا المخرج وسط القاهرة، وباعة الصحف، حيث يقبل المحقق يسري (عزّت النتشة) على شراء نسخ من عدة صحف تحدثت عن الحادثة، (الحقائق بطرق مختلفة) وهل هي مقصودة أو غير ذلك. وتم التحقيق (الكاريكاتوري الكوميدي الساخر) مع عدد من الشخصيات: السائق فضل محمد نصر، وزوجها الثاني المصري المخرج احمد سالم بسبب خلافات، والسابق السوري، والملكة الأم بدافع غيرتها منها بسبب ميل عشيقها احمد حسنين باشا مسؤول البلاط الملكي لها، والملك فاروق الذي بدا مهتما بالطعام، وأم كلثوم بدافع الغيرة الفنية، وأخيها فريد الأطرش، كذلك شخوص المخابرات الأجنبية البريطانية والفرنسية والألمانية، لما أشيع عن علاقتها بها. وبما أشير الى إمكانيات التأثر على الوجود الألماني في سورية، بضغط بريطانيا. وأخيرا جماعة الإخوان المسلمين بطلب منهم، حتى ولو في دائرة الاتهام، لضمان التواجد والحضور.
وقد ضمّن المخرج نزار الزعبي كل مشهد تحقيق تقريبا بظهور جمالي مبهر للفنانة أسمهان، (منى حوا) تعانق الغناء مع السينوغرافيا والأزياء كخلفية بصرية، تمت فيها المحاكاة الغنائية والرقص (من الأفلام).
كان ظهور أسمهان مفاجئا ومبهرا، ومنوعا، ففي مشهد التحقيق مع الملك، تطلع الفنانة أسمهان فجأة من وعاء طعام مغطى بغطاء، لما يعرف عن حب الملك للطعام. في مشهد بيت السائق، تظهر أسمهان كصورة ثابتة، سرعان ما تتحرك وتغني، أما مشهد عبورها فضاء المسرح راكبة دراجة هوائية، فكان له أثر في التنويع التقني، كالصعود في مشهد آخر فوق السفينة الحلم، ذلك في مشهد الباخرة.
أما اختيار الأغاني الست، فتم تضمينها على النحو:
«ليالي الأنس في فيينا» (كلمات احمد رامي) 1944 في أول مشهد.
«يا حبيبي تعال الحقني شوف اللي جرالي) 1940 في غرفة المستشفى، مع الزوج الثاني أحمد سالم.
«يا بدع الورد» (1944) في مشهد احمد حسنين باشا وام كلثوم.
«امتى حتعرف (من فيلم غرام وانتقام 1944) جاءت في مشهد الإخوان المسلمين.
«يا ديرتي ما لك علي لوم» 1944 في مشهدها مع أخيها فريد الأطرش، من كلماتها:
«يا ديرتي مالك علينا لوم لا تعتبي لا تعتبي لووومك علي من خان
حنا روينا حنا روينا سيوفنا من القوم مثل العدو ما نرخصك بأثمان»
وعند البحث في غوغل، ظهر أن لتلك الأغنية قصة سياسية وطنية.
«دخلت مرة في جنينة أشم ريحة الزهور (1940)» في مشهد الحياة بعد الموت.
كما أفضى مشهد في مشهد الحياة بعد الموت بين أسمهان والمحقق يسري، (الذي تكرر في عدد من الأعمال الفنية والأدبية، منذ دانتي الييجري في الكوميديا الإلهية، وأبي العلاء المعري في رسالة الغفران) بالمشاهدين الى حالة أثيرية، كان له ولمشهد الحلم في المستشفى أثر سحري.
لقد تم تطويع الديكورات المتحركة من خلال العجلات، بشكل سلس وإبداعي وكوميدي كما في مشاهد التلفون والكابينة، والأبواب، وصور أسمهان الثابتة والمتحركة بعمق وبساطة. كان من بين ذلك الحقائب، خاصة في مشاهد السفر، حيث تم استخدامها عدة استخدامات. كما تمت محاكاة فضاء القطار وحركته أيضا.
هل كانت أسمهان تتوقع ما سيحدث؟ أم أنها كانت طوال الوقت تعاني؟ لعل أغنية «دخلت مرة بجنينة» التي أبدعتها العام 1940، تدل على هذا الشعور:
«دخلت مرة في جنينة أشم ريحة الزهور واهني نفسي الحزينة واسمع نشيد الطيور
بصيت لقيت ع الغصون بلبل ويّاه وليفته واقف معاها بسكون انا فرحت لما شفته
فارد جناحه عليها وبيراعيها بحنان وهو من حبه فيها غنلها لحن الأمان
وقال لها يا ملاكي اللي تعوزية اطلبيه روحي وعقلي فداك حبيبك أوعي تسيبيه
وبعد مدة طويلة في شرب كاس الوصال لقت حبيبته الجميلة ساقت عليه الدلال
طارت ما سألتش فيه وخلفتله العذاب مسكين يا روحي عليه قلبه من الوجد داب
سهر يعد النجوم والبدر شاهد عليه طالت عليه الهموم وبس يصبر بايه
واللي كمان زاد عذابه وليفته لافت بغيره وزودتله مصابُه وساء يا روحي مصيره
خرجتِ صعبان علي حالتُه تبكّي الجماد حفظ ودادها وهيّ خانت عهود الوداد»
ثمة إيحاءات، لكن لقصدية فكرية لتأمل ما هو أبعد من اغتيال فنانة، لم تبرئ المسرحية أحدا، ولم تتهم أحدا، فحتى وجود أحمد رامي الضمني، ككاتب لإحدى أغاني أسمهان، لا يثبت شيئا.
حرصت المسرحية على إظهار حواضر مصر وبلاد الشام، بما فيها القدس ويافا وبيروت، وربطها معا من خلال قطار الشرق، كحواضر النهضة الثقافية والفنية، وما ظهر فيها من عناصر التحديث. إننا إزاء ربط تاريخي وجغرافي، يعيدنا معا، في ظل هذا الانقطاع، إلى زمن كان ينعم بالتواصل بين هذه البلاد، الذي انقطع فيما بعد.
وللحق، ما كان للعرض أن يظهر بهذا الجمال لولا تعاون طاقم التمثيل: فراس فرّاح ونضال الجعبة وإيفان أزازيان ومحمد باشا، حيث أدى كل منهم أكثر من دور بسلاسة التنقل بين دور وآخر. إضافة للدور الإبداعي للفنانة سمر حداد كينغ في تصميم الحركة. يذكر أن المسرحية من إنتاج المسرح الوطني الفلسطيني عرضت على خشبة مسرح القصبة برام الله.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.