فتح التي في خاطري
أثارت التصريحات الأخيرة لعدد من كبار القياديين في حركة فتح، وخاصة نائب رئيس الحركة محمود العالول، وأمين سر لجنتها المركزية جبريل الرجوب، جملة من المخاوف والالتباسات بشأن موقف الحركة وقيادتها ممن يخالفونها الرأي من أبناء الشعب الفلسطيني، سواء قوى وفصائل أو حراكات اجتماعية، او ناشطين أفرادا. والمقصود بذلك طبعا هي تلك التصريحات التي تحذر من “استفزاز” حركة فتح وتجربتها، أو التحذير من اختبار حركة فتح وصولا إلى القول “أن فتح لن ترحم أحدا”.
وعلى الرغم مما رافق التصريحات وأعقبها من تحفظات وشروح، ودعوة إلى عدم نزعها من سياقها، وعدم تناولها بمعزل عن الإشارات الإيجابية في الحديث عن الحوار والوحدة الوطنية، وسلطة القانون، إلا أن كل هذه التوضيحات لم تفلح في نزع المضمون “التهديدي” وبخاصة أنها صدرت عن مسؤولين كبيرين بارزين في الحركة، وهما الأعلى مكانة في الحركة بعد الرئيس فضلا عن تمتعهما بقاعدة شعبية معروفة.
جاءت هذه التصريحات في أجواء شديدة الاحتقان، وبعد مقتل الناشط نزار بنات، والقمع الشديد الذي تعرضت له المسيرات والاحتجاجات، وبالتالي فَهِم كثير من الناس والمتابعين، أو أعربوا عن مخاوفهم من أن هذه التصريحات والتهديدات تأتي استكمالا لما قامت به السلطة والأجهزة الأمنية في قمع معارضيها، وأنها ترسم معادلة جديدة وصارمة للعلاقة مع قوى المعارضة، تمنع فيها انتقاد الحركة، أو الاحتجاج على سلوك وممارسات الأجهزة الأمنية.
ولا يمكن بالطبع، الحكم على حركة بحجم حركة فتح، بتاريخها والدور المنوط بها، والدور المأمول منها، اعتمادا على تصريحين عابرين، ربما صدرا وسط حالة محتقنة ومأزومة، لكن هذه الأقوال ترتبط بجملة من الأحداث والوقائع والتصريحات الأخرى التي صدرت عن عناصر قيادية ومسؤولين في السلطة وبعض الكوادر، بما يوحي بأنها كلها تشكل نسقا متكاملا لا ينسجم مع تاريخ الحركة وبرنامجها وتقاليدها الوطنية والثورية في استيعاب الخلافات مع الآخرين، والقدرة على توسيع مساحات القواسم المشتركة.
من الممكن تفهم (وليس قبول) هذه التصريحات باعتبارها خطابا موجها للداخل الفتحاوي، وليس لعموم أبناء وبنات الشعب مع أن كثيرا من المسؤولين يتعمدون عدم التمييز بين جمهور فتح والشعب، لذلك فإن هذا الخطاب وإن كان هدفه تعزيز الانتماء وتصليب الأوضاع الداخلية للحركة، فإنه قد يقود إلى تكريس التعصب وعدم قبول الآخر المختلف بالرأي، وفي جميع الأحوال فإن هذا الخطاب قد يقنع الفتحاويين المقتنعين اصلا بفتح وخياراتها، ولكنه لن يقنع باقي فئات الشعب، سواء الفئات المحايدة أو المعارضة.
ووسط هذه الأزمة المعقدة، سواء في التوجهات السياسية أو في إدارة الشأن الداخلي، ليس غريبا أن تتناسل المشكلات وتتكاثر كالفطر فتنبثق مشكلات جديدة من تلك القديمة، وما يزيد الأمر تعقيدا هو غياب المؤسسات التشريعية والرقابية، لذلك فإن اول ما ينبغي التركيز عليه هو الفصل بين فتح، الحركة والتنظيم والفصيل السياسي، والسلطة باعتبارها جهازا مؤسسيا ينبغي أن يبنى وفق قواعد مهنية متخصصة، فتنظيم فتح وحتى لو كان أعضاؤه يشغلون النسبة الكبرى من المواقع القيادية المدنية والعسكرية، ليس مسؤولا عن سلوك الأجهزة الأمنية، تماما مثلما أن (فتح) ليست مسؤولة عن تطورات الوضع الوبائي لجائحة كورونا، ولا عن أزمة المرور في المدن، ولا عن أداء السفارات والبعثات الدبلوماسية، وفي المقابل وبنفس المقدار من الجزم فإن الأجهزة الأمنية ليست مسؤولة عن تنظيم الفعاليات السياسية الجماهيرية لتأييد رأي معين أو معارضة غيره، فدور الأجهزة الأمنية والعسكرية مرتبط بدقة بصلاحياتها المنوطة بها وبالأحكام العسكرية الصارمة التي تنظم عملها.
المسألة الثانية الواجب إبرازها، هي ضرورة احتفاظ فتح بهويتها كحركة تحرر وطني، وليس كحزب سلطة يدافع عن كل ما يقوم به مسؤولو السلطة وقادتها، هذه الحقيقة البسيطة تتطلب جملة من التبعات والاشتقاقات، وهي تحل سلسلة من الأمور المعقدة، ولأن الشعب الفلسطيني ما زال تحت الاحتلال وفي مرحلة تحرر وطني، فإن قانون التحرر الذي ينبغي عدم نسيانه أو التفريط به لحظة واحدة، هو قانون الوحدة الوطنية والجبهات الوطنية الائتلافية العريضة، ولذلك فإن أي إخلال بهذا القانون يضرّ بفتح قبل غيرها، لأنها هي التي تقود حركة التحرر الوطني الفلسطيني. ولذلك فإن من المبكر جدا اختزال هذه المهمة المركزية لحركة فتح والتي تأسست من أجلها، وتحويلها إلى امتداد جماهيري أو ميليشيوي لأجهزة السلطة. وللمقارنة يجدر بنا أن نأخذ مثالا حيا من الجزائر الشقيقة التي قاد فيها حزب جبهة التحرير الوطني الجزائري البلاد نحو الحرية والاستقلال، ظل هذه الحزب يحكم البلاد بعد الاستقلال، ولم ينتف دوره إلا بعد مرور ثلاثة عقود من الانتصار على المستعمر، وبعد تفشي مظاهر البيروقراطية والفساد والترهل والاستبداد، وبالتالي فإن سنوات طويلة من النضال ضد الاحتلال ما زالت تنتظر كوادر فتح وعناصرها وجمهورها، وليس من الحكمة تبديد جهودها على الصراع مع الشركاء في الوطن.
يقال دائما أن فتح تشبه شعبها، من حيث التعددية وتنوع الآراء والاجتهادات والمشارب الفكرية والأيديولوجية وتضارب المصالح الطبقية، لذلك نأمل أن تستعيد فتح صورتها المشرقة، فهي غلّابة على أعدائها وليس على شعبها وشركائها، ما يستدعي أن تكون فتح أكثر تسامحا وصبرا وقبولا لمن يخالفها أو ينتقدها، فالنقد ليس استفزازا، والاختلاف مع الحركة وقيادتها، بما في ذلك المطالبة الديمقراطية السلمية بإجراء الانتخابات أو تغيير القيادة، حق ديمقراطي يكفله القانون الأساسي وينص عليه إعلان الاستقلال، وهي تقاليد راسخة للثورة الفلسطينية ومنظمة التحرير، وبالتالي فإن من يختلفون مع حركة فتح ليسوا ضيوفا على هذا الوطن لكي ترحمهم حركة فتح او تحرمهم من هذه الرحمة، بل هم شركاء أساسيون. أما عن التطاول على الأشخاص من القيادات والأجهزة الأمنية فهي مسلكيات ينبغي الرجوع فيها للقانون وحده الذي يحاسب على مثل هذه التصرفات بموجب مواد كثيرة واردة في قانون العقوبات التي لا تطبق للأسف إلا على الصحفيين.