استحقاقات التحولات الكونية لمكانة القضية الفلسطينية
خلال العرض الافتتاحي لفيلم “نائلة والانتفاضة” في مهرجان نيويورك للأفلام الوثائقية في دورته السنوية أواسط تشرين الثاني عام 2017، ولم يكن العام الأول على ولاية ترامب للبيت الابيض قد مضى بعد، ودون كثير عناء كان يمكن ملاحظة بداية تحولات غير مسبوقة لدى الرأي العام الأمريكي ليس فقط إزاء عدالة القضية الفلسطينية، بل و لا أُجازف إن قلت إزاء النضال الوطني التحرري، والذي سجلت الانتفاضة الأولى أبرز محطاته، و قدم ذلك الفيلم جزءاً من وقائعها بمهنية توثيق عالية المستوى، حيث لم يُبرز الفيلم مدى الارادة الشعبية للانخراط في فعاليات الانتفاضة التي رمت بكل ثقلها للخلاص من الاحتلال فحسب، بل ركز على البعد الأهم في مضمون تلك القوة الشعبية التي عبرت عنها نضالات المرأة الفلسطينية على الصعيدين الوطني و الاجتماعي، و الأهم إعادة تذكير العالم بمصطلحات الاعلام الأمريكي في زمن تلك الانتفاضة و مدى انضباطها للقانون الدولي وقضايا الحرية والاحتلال والحق في تقرير المصير و الموقف الحاد من الاستيطان الذي عبر عنه جورج بوش الأب عندما هدد بوقف مساعدات ضمانات القروض ما لم يتوقف الاستيطان، والتي كانت جميعها ضحية عملية أوسلو التي تجاوزت هذه المصطلحات و المواقف، وغيبت معها لسنوات طويلة مضمون وجوهر القضية الفلسطينية المرتبطة بالعدالة الانسانية.
جوليا باشا مخرجة الفيلم في مؤسسة ” Just Vision”و التي سبق لها إخراج فيلم بدرس الذي يوثق لانتصار المقاومة الشعبية، وخاصة النسوية في قرية بدرس و فيلم “our neighborhood”الذي يوثق نضال أهالي الشيخ جراح عبر شخصيات المقاومة في هذا الحي ومن ضمنها الطفلين في حينه “منى ومحمد الكرد” . جوليا التي تتلمذت على يد فكر ادوارد سعيد تؤمن بعدالة القضية الفلسطينية وبالقوة الهائلة للمقاومة الشعبية وقدرتها على الانتصار سيما إذا قادت هذه المقاومة النساء ، أكدت ومن موقع المتابع لتطور الفكر السياسي الفلسطيني ومسيرة النضال التحرري للشعب الفلسطيني، بأنه آن الأوان لمواجهة محاولات شيطنة النضال الفلسطيني في الاعلام الغربي والأمريكي بصورة خاصة، واستمرار وصمه بالارهاب وتصنيف حتى الانتفاضة الاولى بالعنف، وتفاقُم هذا الأمر منذ انطلاق مسيرة أوسلو ، تمهيداً للانقضاض على حقبة كاملة في العلاقات الدولية وقرارات الأمم المتحدة من قبل عصابة ترامب و امتداداتها في حكومات اليمين الاسرائيلي .
الملفت أن المشاركين في افتتاح المهرجان، ومعظمهم من يهود نيويورك والنخبة الاعلامية و الفكرية فيها وعدد واسع من الشباب أظهروا تعاطفاً غير مسبوق أثناء العرض الافتتاحي للفيلم عندما طلبت المخرجة من نائلة “الشخصية المركزية في الفليم” الصعود لمسرح القاعة بعد انتهاء العرض للمشاركة في الاجابة على أسئلة المشاهدين بتصفيق حار استمر لأكثر من خمسة دقائق، الأمر كان يشير لمنسوب التضامن مع نضال المرأة الفلسطينية في مواجهة قمع وعنف الاحتلال الاسرائيلي في محاولة منه لمنع حرية الفلسطينين، والابقاء على القيود المفروضة على نساء فلسطين اللواتي وجدن بالانتفاضة فرصة للتحرر الوطني من الاحتلال و التحرر الاجتماعي من قيود المجتمع الذي يعاني من ظلم المحتلين.
كان واضحاً أن تيارات متنامية في المجتمع الأمريكي تحاول الامساك بكل القضايا الداخلية و الخارجية التي تمكنها من تأطير واسع للقوى التقدمية و الليبرالية في معركتها القادمة مع الشعبوية العنصرية الترامبية، والتي هي في الواقع على الأقل بما يخص الصراع الفلسطيني الاسرائيلي نتاج انحياز وتشجيع الادارات الامريكية المتعاقبة للاحتلال الاسرائيلي بطابعه العنصري، ليس فقط لأن ذلك كان يعبر عن صحوة ضمير بقدر ما أن مفهوم تغييب العدالة بحق الشعب الفلسطيني بدأ يتسلل منذ بدايات الترامبية للمجتمع الامريكي نفسه، ومن ضمنها قضايا السود والملونين و المهاجرين والأقليات الأخرى، وغيرها من قضايا المس بالعدالة .
كان واضحاً بصورة جلية الأهمية القصوى لضرورة استعادة مكونات عدالة قضية الشعب الفلسطيني ودمجها مع القضايا الكونية الأخرى التي تتبلور في اطار حراك كوني تقدمي في مواجهة الشعبوية و العنصرية الصاعدة و التي وجدت أهم تعبيراتها في حركة “حياة السود مهمة” بعد مقتل جورج فلويد وما رافقها من تطورات.
في هذا السياق يمكن قراءة دلالات استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة سواء لجهة ابراز مدى عنصرية اسرائيل من وجهة نظر يهود الولايات المتحدة، حيث أظهرت نتائج هذا الاستطلاع أن 25% من الجالية اليهودية الأمريكية يؤمنون أن إسرائيل دولة أبارتهايد، وأن هذه النسبة ترتفع إلى 38% في أوساط الشباب تحت سن الأربعين، كما تشير إلى أن 34% من يهود الولايات المتحدة يرون في معاملة إسرائيل للفلسطينيين بأنها تشبه عنصرية أمريكا، وترتفع هذه النسبة إلى 43% في أوساط من هم أقل من 40 سنة، كما أبرزت نتائج الاستطلاع أن 22% من الجالية اليهودية الأمريكية تعتقد أن إسرائيل تمارس التطهير العرقي والإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، وترتفع هذه النسبة إلى 33% في أوساط الشباب تحت سن الأربعين.
من البديهي القول أن مكونات العدالة المتصلة بالقضية الفلسطينية تستدعي حماية قدسيتها، وعدم التشويش على هذا النمو المتسارع لمكانتها في أوساط الرأي العام الدولي بما في ذلك الرأي العام في أوساط يهود الولايات المتحدة و الأجيال الشابة والتقدمية المتنامية في المجتمع الأمريكي، والتي بفعل وسائل التواصل الاجتماعي تتنامي لديها أشكال غير مسبوقة من المعرفة ازاء مضمون خطورة الانتهاكات الاسرائيلية، ومدى عنصرية سياساتها المباشرة و الاستراتيجية كما ابرزتها قضية الشيخ جراح، بالاضافة إلى سياسات قوننة التمييز العنصرى الشامل ضد الفلسطينيين بمن فيهم الفلسطينيين من مواطني دولة اسرائيل ويحملون جنسيتها.
هذا بالإضافة إلى إن المظاهر المتفاقمة لانتهاكات السلطة الفلسطينية لحرية الرأي والتعبير و التظاهر و التعدي على مكونات ودور المجتمع المدني في فلسطين المحتلة، و ما يترافق مع ذلك من اتساع نطاق الفساد والتمييز الجهوي ضد قسم من أبناء شعبنا في قطاع غزة و الذين يعيشون بين فكي كماشة اجراءات عقابية من حكومة السلطة والحصار الاسرائيلي الشامل على القطاع والذي يتغذى بفعل استمرار الانقسام ، وغيرها من الشواهد تترك أثراً بالغ السلبية على هذه التطورات لدرجة أن اسرائيل التوسعية العنصرية توظفها وتحاول الاختباء خلف هذه الظواهر في محاولة لإزاحة الانظار عن ممارساتها العنصرية. بالتأكيد فإنها لن تفلح حيث بات يتضح لقطاعات واسعة من الرأي العام الدولي مدى ارتباط هذه المظاهر بإرث سياسات الاحتلال لإفساد النخبة المهيمنة على المشهد الفلسطيني .
معركة الرأي العام في زمن اتساع نطاق السوشيال ميديا و صحوة قطاعات واسعة من الرأي العام الدولي على قضايا العدالة والعنصرية و حقوق الانسان و حقوق المرأة والتي لم تعد مجتمعاتهم محصنة منها بفعل تلك الشعبويات التي فتكت بمصالح وحقوق الاغلبية في تلك الدول، و جاءت جائحة كورونا لتظهر مخاطرها بصورة وجودية، تتطلب وضمن قضايا أخرى عملية اصلاح وتغيير جذرية وشاملة في بنية النظام السياسي الفلسطيني، بما يمكن شعبنا و طلائعه الفاعلة في القضايا الوطنية والكونية من توسيع نطاق و تعزيز الاندماج الكامل لعدالة القضية الفلسطينية في هذه المعركة التي لا تقل أهمية عن معركة المقاومة المباشرة للاحتلال، بل ربما تشكل العتلة الأهم لمساندة النضال الشعبي التحرري على الأرض، و الذي يمارس القائمين عليه مواجهة المحاولات المستميتة لتمزيق الهوية الجامعة لشعبنا و تفتيت عناصر قضيته، و ما يستدعيه ذلك كله من ضرورة السعي الجاد للنهوض بوحدتها كهوية وكيانية شاملة لتمكين الكل الفلسطيني من الاسهام في معركة العودة وتقرير المصير بالرضوخ للارادة الشعبية الكونية، و ليس استمرار التيه في دهاليز المصالح الانتهازية في العلاقات الدولية ونموذجها الأبرز إسرائيل .