عـن حـرب الـغـذاء والـمـنـاخ
تشكل أزمتا الغذاء والمناخ همين يصدعان العالم يوماً بعد يوم، ارتباطاً بالسلوك غير الرشيد الذي تمارسه الدول بحثاً عن التفوق الاقتصادي، وسط ارتفاع غير منضبط في النمو السكاني، مقابل إهمال الكثير من الدول عن الأدوار المنوطة بها لتوفير احتياجات سكانها.
لا يمكن فصل أزمة الغذاء عن المناخ، وكذلك لا يمكن فصل هاتين الأزمتين عن ظاهرة الاحتباس الحراري والارتفاع التدريجي في درجات الحرارة، لأسباب طبيعية وغير طبيعية مصدرها الإنسان، وكم شنت آلاف الحروب على الإنسان والطبيعة بحثاً وراء المصالح وتعظيم القوة.
اليوم يشهد الاقتصاد العالمي تدهوراً غير مسبوق بفعل فيروس «كورونا»، وإجبار الكثير من الدول على إغلاق أسواقها وأبوابها أمام بعضها البعض، ما مس بشكل كبير الأفراد وخصوصاً الفقراء، وأفقرهم أكثر وأكثر نتيجة ارتفاع معدلات البطالة وتسريح الموظفين من أعمالهم.
قبل «كورونا» كان العالم يتابع عن كثب مسألة الأمن الغذائي، الذي تأثر نتيجة عوامل كثيرة أبرزها الأزمات الاقتصادية المتتابعة وكذلك عدم التوزيع العادل للثروة وتدخل الدول في حروب قصيرة أو طويلة يذهب ضحيتها ويدفع فاتورتها دائماً الفقراء والمعوزون من أصحاب الدخل المنخفض أو من لا دخل لهم.
الأمن المائي أيضاً جزء من منظومة الأمن الغذائي، وهذه المشكلة لا تقلق الدول الفقيرة في الماء فحسب، بل تقلق الدول الغنية، إلى درجة أن حروباً كثيرة شنت من أجل الماء، واليوم تشهد مصر والسودان تسخيناً مع إثيوبيا على خلفية أزمة سد النهضة.
ثمة أمثلة كثيرة تتعلق بالحرب من أجل الغذاء والماء، وهي بطبيعة الحال حرب عليهما حين تواصل الدول المتقدمة وغير المتقدمة البحث عن الموارد الطبيعية وتسريع عجلة الاقتصاد والتحديث الصناعي على حساب «أمنا الأرض»، حينذاك يتأثر الأمن الغذائي والمائي بهذا الفعل.
ليس هناك في البال ما هو أوضح من الصراع الجاري بين الفلسطينيين والإسرائيليين، إذ عدا عن كونه صراعاً وجودياً فهو أيضاً صراع على الأرض وما فوقها وتحتها، وكم هي الاعتداءات الإسرائيلية التي لا حصر لها هنا على الأرض الفلسطينية وما يشملها من استهداف مباشر لمنظومة الزراعة والحرب على الزيتون والبرتقال والليمون والكثير من الأغذية والفواكه.
ينطبق هذا أيضاً على المياه، ويحدث أن يسرق الاحتلال يومياً مياه الآبار الجوفية ويستنزفها في الضفة الغربية وقطاع غزة، الأمر الذي يرسخ انعدام التوازن المائي. هنا أيضاً تتدخل الطبيعة ويفعل الاحتباس الحراري مفاعيله في فلسطين المحتلة، حين تتأرجح الكميات السنوية لهطول الأمطار، يرافقها النمو السكاني المطرد.
الأوضاع الاقتصادية في الضفة وغزة كارثية ومقلقة للغاية، والاحتلال الإسرائيلي يعيق التنمية فيهما ويدفع باتجاه بقائهما سوقاً لمنتجاته. ثم إن فكرة الحرب والاعتداء على الممتلكات اليومي يفقر الزراعة الفلسطينية و»يُصلّع» الأراضي حتى تترسخ فكرة التبعية الفلسطينية لإسرائيل.
عدا عن الاختلال في الأمن الغذائي المقصود، تشكل سرقة المياه من الخزان الجوفي الفلسطيني تحدياً كبيراً، يجعل من توفيرها في المستقبل منوطا بشراء المياه من إسرائيل، وهذا يؤكد مرةً أخرى مسألة التبعية الاقتصادية التي تربط بالضرورة الاقتصاد الفلسطيني وحرية حركته بنظيره الإسرائيلي.
في المنظور الأوسع لأزمة الغذاء والمناخ ومع النمو السكاني المطرد، يبدو أن العالم لن يشهد سلاماً مستداماً كما يحصل الآن، حيث تتنوع الحروب بين سياسية «عنترية» واقتصادية وأخرى حدودية، ورابعة على الغذاء والمياه وهكذا دواليك، والأهم أن منبع العالم في افتعال المشكلات يصب سلباً في التغير المناخي.
الحرارة ترتفع يوماً بعد يوم وتزحف ناحية الدول الباردة مثل كندا التي عانت مؤخراً من موجات حرارة غير مسبوقة، ومع التغير المناخي هناك كوارث طبيعية تحصل بين الوقت والآخر، وكلها تهدد الإنسان وتهدد كذلك أمنه الغذائي والمائي، ما يعني المزيد من الحروب والدمار للبشرية.
في إطار كل ذلك ينبغي على الدول «المتحضرة» والنامية أن تدرك الحاجة إلى تقاسم الثروات الطبيعية ومعها تقاسم الأعباء والمسؤوليات المترتبة على الزيادة السكانية والاختلال المناخي. اليوم يحتاج العالم أكثر من أي وقت مضى إلى التكاتف والتوحد لمواجهة هذه الأخطار التي تهدد مع الوقت مستقبل البشرية.
ثم هناك مشكلة أخرى تتعلق بانتقال المجتمعات الزراعية إلى المناطق الحضرية، وهذه الزيادة المطردة ستؤدي إن عاجلاً أم آجلاً إلى اختلال في الأمن الغذائي، وكل هذا يحدث لأن الكثير من الدول لا تعي أهمية الزراعة ولا تساعد المزارعين وتقدم يد العون لهم في أوقات المحن.
يحتاج العالم إلى خلق حالة من التوازن بين الاقتصاد والحداثة من جهة، والزراعة وتوسيع المساحات الخضراء والتطور الزراعي من جهة أخرى، لأن هذا التوازن يُضافُ إليه سلوك رشيد في إدارة الموارد يجعل العالم أفضل وقادراً على تلبية احتياجاته الغذائية والمائية، والأهم أنه يضبط غضب «أمّنا الأرض».