غزة تحت حصار الخيارات
قدمت إسرائيل خلال الأيام القليلة المنصرمة، حبة مسكن خفيفة لفصائل المقاومة في قطاع غزة، ليس من شأنها أن توقف الصداع الحاد الذي يعاني منه سكان القطاع، والقائمون على السلطة فيه، ولكنها تعطي مبرراً، لمنح الوسطاء فرصة أطول من الوقت.
حركة حماس، وفصائل المقاومة في غزة تعبر عن حالة غضب وقلق شديدين، وتطلق التهديدات مع قليل من البالونات الحارقة كرسائل لمن يعنيهم الأمر، بأن الصبر يكاد ينفد.
بعد نحو شهرين ونصف الشهر على توقف العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة، بقيت الملفات الرئيسة مغلقة على الفشل في إمكانية تحريك أي منها، فلا إعادة إعمار تبدأ، ولا المنحة القطرية تصل، ولا تخفيف للحصار ولا صفقة تبادل أسرى ممكنة التحقيق.
وبينما تزداد معانيات الناس، وأصحاب المنشآت الخاصة، ورجال الأعمال ثمة حالة تباطؤ على الأرجح مقصودة، إزاء عملية إزالة آثار الدمار الذي وقع، وإزاء إعادة ترميم الطرق في المفاصل الأساسية في مدينة غزة، عسى أن يشكل ذلك مبرراً لدى المتضررين والضحايا، لمزيد من الصبر على اعتبار أن إزالة الآثار هي المرحلة الأولى لإعادة الإعمار، وهذه لم تنته بعد.
ألف وثلاثمائة وحدة سكنية من بقايا عدوان ٢٠١٤ لم تصلها عملية إعادة الإعمار، وألف وأربعمائة أخرى خلفها العدوان الأخير، سكان هذه البيوت، مشتتون، دون الحد الأدنى من الشعور بالاستقرار والراحة مع قليل من الأمل بأن تنتهي معانياتهم خلال فترة قريبة.
هؤلاء جزء فقط ممن يحتاج إلى تعويض وإعادة إعمار، فالقائمة طويلة تشمل فئات اجتماعية ومهنية ومؤسساتية واقتصادية كثيرة تستحق المساعدة في البناء أو التعويض.
كل محاولات تحريك الملفات العالقة، ومبادرات التدوير، وتبديل الآليات لم تفلح حتى الآن في تحريك الأوضاع التي تعاني حالة اختناق ومحدودية الخيارات بالنسبة لفصائل المقاومة.
إسرائيل، مدعومة بأطراف كثيرة على رأسها الولايات المتحدة، تقوم بعملية ابتزاز يتضرر بسببها كل من يسكن هذا القطاع، إن كان مواطناً أو فصيلاً أو مؤسسة، الكل يعمل لإفقاد الانتصار الذي حققته المقاومة أي مضامين بل تحويله إلى هزيمة، وتدفيع الفصائل الثمن، بينما يسيطر على الكل في القطاع شعور بالرضا عن أداء المقاومة، يولد آمالاً، بإمكانية تحقيق انفراجات على الأوضاع المعيشية للناس.
ثمة رسائل قوية، وذات أبعاد استراتيجية وتكتيكية، خلف السلوك الإسرائيلي ومن يدعم سياسة حكومة بينيت تجاه قطاع غزة، الرسالة الأساسية تستهدف خلق قناعات بأن استخدام السلاح، لا يمكن أن يحقق لسكان القطاع سوى المزيد من المعاناة. فكما كل مرة، تعود إسرائيل لتفرض حصاراً مشدداً على القطاع، بعد كل جولة، حتى لو تم التوصل إلى تفاهمات فإن إسرائيل تعود عن هذه التفاهمات في أي وقت.
الرسالة ليست فقط لفصائل المقاومة، بما أنها المستهدفة أولاً بهذه الرسالة، وحتى تستجيب للمحاولات التي لا تتوقف، من أجل تحقيق هدنة طويلة يختفي خلالها دور السلاح، وهي رسالة تحريض للناس المتضررين من العدوانات الإسرائيلية، ضد المقاومة وسلطة الأمر الواقع في قطاع غزة، من يقف خلف هذه الرسائل لا يبدي أدنى اهتمام بمعانيات الناس، وربما لديهم اعتقاد بأن الناس متهمون بالرضوخ للأمر الواقع القائم في القطاع.
المسألة صعبة إلى حد كبير، ذلك أن لا سياسة الاحتواء، ولا سياسة الإرهاب الصهيوني، يمكن أن تؤدي إلى إقناع الفصائل بالانخراط في المسار السياسي الذي تسعى واشنطن والمجتمع الدولي لفتحه بعد تهيئة الظروف لذلك.
تتحدث واشنطن عن توجهها لدعم المسارات الإنسانية في قطاع غزة، وحرمان حركة حماس من ثمار ما تقوم به المقاومة، ولكن هذا التوجه محكوم لشروط الحكومة الإسرائيلية التي تدير المعركة في الميدان.
إسرائيل قررت، إدخال تسهيلات محدودة، حيث سمحت بإدخال الوقود لمحطة توليد الكهرباء وتوسيع نطاق الصيد لاثني عشر ميلاً، وإدخال تسع وعشرين مركبة محجوزة منذ شهرين ونصف الشهر على حاجز معبر بيت حانون، بالإضافة إلى منح تصاريح لنحو خمسين تاجراً، وإدخال بعض المواد من خلال معبر كرم أبو سالم ليس من بينها ما له علاقة بإعادة الإعمار.
أمام عدد من مستوطني غلاف غزة، يقول رئيس الحكومة نفتالي بينيت إن حكومته ستقدم بعض التسهيلات لتحسين الأوضاع في قطاع غزة، وفي الوقت ذاته ستواصل ضرب ما يسميه الإرهاب بقوة، ثم يستدرك بأن إسرائيل يمكن أن تتراجع عن هذه التسهيلات وقتما ترى ذلك.
من المرجح أن بينيت أقدم على السماح بهذه التسهيلات المحدودة والمؤقتة، قبل ذهابه إلى واشنطن، وحتى يتجنب النقد من الإدارة بسبب إقفالها قطاع غزة بالكامل، وتجاهل الأزمة الإنسانية التي يتذرع بها الجميع.
حماس والفصائل في قطاع غزة، لا تملك خيارات كثيرة، لمواجهة هذا الوضع فهي لا تستطيع تفجير الموقف، بينما هي تحرص على العلاقة مع مصر وقطر ولا تستطيع تفجير الموقف، وآثار الدماء لم تجف بعد، وبينما يعاني السكان أزمات تتسع وتزداد عمقاً وإرهاقاً.
وهي لا تستطيع اللجوء إلى هذا الخيار طالما أن التجربة تفيد بأن إسرائيل مدعومة طبعاً، تعيد الأوضاع إلى نقطة الصفر بعد كل جولة قتال، وأن أفضل ما يمكن توقعه، هو العودة لتفاهمات لا تصل إلى حد رفع الحصار، أو تحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية للسكان.
حتى العودة لتنشيط الإرباك الليلي والبالونات الحارقة والمتفجرة، فإن ذلك يتم بحدود إرسال رسائل غضب ليس أكثر، وأيضاً حتى لا تغضب الوسطاء فضلاً عن أنها تستدرج قصفاً إسرائيلياً بالطيران الحربي.
حماس والفصائل أمامها خياران، الأول والأفضل والأكثر جدوى المصالحة والمبادرة لإعادة بناء الحالة الفلسطينية، لكن هذه تبدو صعبة إلى حد كبير ما لم تقدم تنازلات أساسية ذات أبعاد سياسية، الخيار الثاني، تنشيط المقاومة في القدس والضفة، بالقدر الذي يحقق نتائج فاعلة ومؤثرة على مواقف الأطراف وما عدا ذلك، ليس للفصائل سوى أن تلوذ بصبر طويل ومرارات أين منها العلقم.