تفكيك نظام الأبارتهايد: هل يتحوّل إلى برنامج إجماع وطني؟
مقالات

تفكيك نظام الأبارتهايد: هل يتحوّل إلى برنامج إجماع وطني؟

لا تتغير البرامج الوطنية لحركات التحرر أو للأحزاب السياسية أو حتى خطط المراحل الاستراتيجية للدول التي اعتمدت وما زال بعضها يعتمد مثل هذه الخطط لمجرد وجود تغيرات في الواقع على هيئة أحداث مهمة أو أقل أهمية، ولا لمجرد أن ظهر بعض العقبات أو العراقيل أمام تحقيق تلك البرامج والخطط.
تدلّ التجربة التاريخية التي مر بها معظم الحركات التحررية أن التغيرات البرنامجية تفرض نفسها على الواقع في ضوء (تحولات «ثورية» يمر بها هذا الواقع أو ذاك)، تماماً كما تدل الخبرة التاريخية لهذه الحركات التحررية والشعوب التي تتبنى تلك البرامج أن التلكؤ في الاستجابة لمتطلبات تلك التحولات يوازي، إن لم نقل يزيد أثراً على التسرع في الانتقال إلى برنامج جديد يعكس الحقوق والأهداف والمصالح الوطنية بالمعنى السلبي لهذا الأثر.
أقصد أن التحول إلى تبني برنامج وطني جديد، يستجيب لمتطلبات التحولات الكبيرة التي طرأت على الواقع ليس مسألة استباقية، ولا مسألة انتظارية من جهة، كما أنه لن يتأتى أبدا لمجرد نضوج محدداته الموضوعية لأن العامل الذاتي الذي يستوعب هذه المحددات، ويستجيب لمتطلباتها لا يقل أهمية وحسماً عن دور نضج تلك العوامل الموضوعية.
وبقدر ما يتعلق الأمر ببرنامج حركة التحرر الوطني الفلسطينية، فقد مرّ هذا البرنامج في مراحل عدة، وتغير وفق متطلبات التحول الهائل الذي طرأ على الواقع الوطني والإقليمي والدولي على حد سواء، بصرف النظر عن تفاوت هذه الاعتبارات والأبعاد الثلاثة في التأثير على تغير البرنامج.
لم يكن برنامج الدولة الديمقراطية الفلسطينية والذي أجمعت عليه ضمنياً فصائل العمل الوطني الفلسطيني بعد هزيمة حزيران ١٩٦٧ إلا درجة كبيرة من الاستجابة لواقع ونتائج هزيمة حزيران من جهة، واستجابة لمتطلبات إزالة آثار العدوان وتخطيا موضوعيا للميثاق القومي والتحول السلس نحو الميثاق الوطني بدلا عنه، مع أن بذور البرنامج الجديد كانت هناك.
ما كان يمكن أبداً الانتقال إلى برنامج الدولة الديمقراطية لو لم تقع حرب حزيران، ولم يتم احتلال الضفة والقطاع، ولا كان ممكنا أن يغتني هذا البرنامج لولا انطلاقات فصائل العمل الوطني بعد حزيران، ولولا أن المد اليساري كان قويا ومؤثرا في الواقع الفلسطيني آنذاك.
ما يعني أن ظرفاً موضوعياً واستجابة ذاتية قد تمت هنا ونضجت أيضاً.
تم الانتقال بعد حرب تشرين (بصرف النظر عن تقييم أهدافها ودوافعها ونتائجها) إلى برنامج «النقاط العشر» والذي تبلور في هيئة وصيغة (إقامة السلطة الفلسطينية على أي جزء يندحر عنه الاحتلال) في ضوء ما أشيع من آمال وتوقعات ومراهنات بعد تلك الحرب.
وهكذا فإن التغير البرنامجي هنا قد جاء في ضوء تغيرات كبيرة شهدها الواقع وتحولات هائلة طرأت عليه.
بقي البرنامج الوطني يراوح في هذه المرحلة بين قيام «سلطة على أي شبر يتم تحريره» وبين رفض له على يد أصحاب «جبهة الرفض» وبين قيود وشروط مشددة على هذا «البناء الملتبس برنامجيا»، وخصوصا في ظل قيام ما عُرف في ذلك الوقت بجبهة الصمود والتصدي.
هذا البرنامج الملتبس تبلور لاحقا في برنامج فلسطيني مُعلل، وواضح ومحدد الأهداف وهو برنامج العودة والدولة وحق تقرير المصير، وتوج المجلس الوطني التوحيدي هذا البرنامج بوثيقة إعلان الاستقلال وتوحدت الساحة الوطنية من جديد بأقل الالتباسات، وبأعلى درجة من الوحدة. الذي فرض هذا التغير البرنامجي المحدد والملموس والكبير هو الانتفاضة الوطنية الكبرى في العام ١٩٨٧.
كان يستحيل على الساحة الفلسطينية أن تتوحد على برنامج كهذا دون الفعل الهائل الذي أحدثته الانتفاضة في الواقع وفي الوعي الوطني، وكان يستحيل القفز عن الحقائق والوقائع التي فرضتها الانتفاضة على كامل الإقليم وعلى العالم بأسره، ولعل تأثير هذه الانتفاضة في الواقع «والوعي» الإسرائيلي نفسه كان وبلغ من الأهمية ما لم يقع قبله ولا بعده إلى يومنا هذا.
لم يتغير هذا البرنامج من حيث الشكل إلى يومنا هذا ولكنه تغير بصورة كبيرة على مستوى المحتوى إلى درجة أن البعض منا قد اعتبر هذا التغير خاصا وخطيراً إلى أبعد الحدود.
ولقراءة وتوضيح هذا التغير في المحتوى وليس في الشكل أو النص، علينا العودة إلى ما تسمى مبادرة السلام الفلسطينية، هذه المبادرة حولت البرنامج الوطني والمتمثل بالعودة والدولة وحتى تقرير المصير إلى واقع جديد بات مسموحا، بل ومرغوبا معه الذهاب إلى التفاوض بهدف الصلح والدخول «عمليا»، في مرحلة التسوية التاريخية .. أو السياسية مع إسرائيل.
هنا جاءت حرب الخليج الثانية، وأرست لهذا التفاوض مشروعية سياسية في مؤتمر مدريد، ومن هناك تم الولوج إلى أوسلو، وهنا أيضا فإن المتغيرات في الواقع الدولي والإقليمي التي نجمت عن هذه الحرب بالذات، وفي ظل تراجع منسوب الانتفاضة الوطنية الكبرى، وظهور لاعب جديد في الساحة الفلسطينية متمثلا بالإسلام السياسي، اعتقدت القيادة الفلسطينية أن ثمة فرصة تاريخية قد وفرتها هذه المعطيات، واعتبرت أن التحرر الوطني الفلسطيني قد دخل في المرحلة العليا من هذا التحرر نحو عملية الاستقلال الوطني.
كان هذا هو الالتباس الجديد الذي دخل فيه البرنامج الوطني بعد التباس الصلح والتفاوض أو التوجه نحو التسوية.
اعتبرت القيادة الفلسطينية أن التسوية مع إسرائيل من خلال المرحلة الانتقالية ستوفر قيام دولة كما ستوفر الحل النهائي في قضايا التفاوض وصولا إلى إنهاء الصراع كله.
دخل البرنامج الوطني في مأزق كبير وخطير بعد إفشال أوسلو أو فشله (الأمر سيان من حيث النتائج) وتحول الاستيطان إلى واقع بات يهدد كل إمكانية لقيام دولة مستقلة، وتسابق إسرائيل الزمن الآن لحسم معركة القدس لصالحها، وهي ترفض من حيث المبدأ أي نقاش حول حق العودة، ناهيكم طبعاً عن سرقة الموارد والثروات والاستيلاء على مقدرات الشعب الفلسطيني وتحولت استراتيجيات الضم والحصار والتجويع والسطو على الأموال إلى سياسة إسرائيلية معتادة، ودخلت هذه البرامج إلى جدول أعمال إسرائيل رسميا.
ما تعرضه إسرائيل اليوم هو نظام فصل عنصري كامل مؤسس على قوانين أساس (قانون القومية) وعلى عشرات القوانين العنصرية في الداخل الفلسطيني وما تعرضه على المحتل عسكريا من الأرض الفلسطينية هو حلول اقتصادية (أي احتياجات وليس حقوقا وطنية)، وما تعرضه على أكثر من ستة ملايين فلسطيني في الشتات هو الإنكار الكامل لحقوقهم في العودة إلى أرضهم، ورفضها حتى لمجرد مناقشة هذه العودة.
باختصار (لأن المسألة تحتاج إلى تفصيلات في مقالات قادمة) فإن إسرائيل التي وحدت - ليس برغبتها وإنما تماشيا مع الواقع - الشعب الفلسطيني بين الداخل وبين الضفة والقطاع، عادت لتوحد الشعب الفلسطيني كله اليوم في ظل هذه المنظومة الجديدة من الفصل العنصري التي باتت تمثله، والذي بات العالم كله يعي مخاطره بما في ذلك قطاعات متزايدة من المجتمع الأميركي نفسه.
التغيرات الهائلة التي طرأت على البنية السياسية والاجتماعية في إسرائيل والتحول المتصاعد نحو اليمين المتطرف ونحو الفاشية وسطوة الوعي القومي والديني الأصولي المتطرف في المجتمع الإسرائيلي، والفشل المعلن لكامل مسار التسوية السياسية، وعجز الحالة العربية عن التصدي لهذا الواقع بما في ذلك الواقع السياسي الفلسطيني نفسه، وتردد المجتمع الدولي في الانتقال من مرحلة رفض السياسات الإسرائيلية واستنكارها نحو ردع هذه السياسة والتصدي لها .. لكل هذه التغيرات الهائلة فقد تحول - على ما يبدو - تفكيك نظام الفصل العنصري إلى السبيل الأنجع للمساواة في الداخل، ولسقوط الاحتلال ومنظوماته في الضفة والقطاع، وإلى توفير الفرصة والأرضية الحقيقية لممارسة حق العودة حسب الشرعية الدولية.
برنامج تفكيك نظام الأبارتهايد يلقى إجماعاً عالمياً يكاد يكون شاملا على المستويات الشعبية، وهو سيمتد إلى المستويات الرسمية بكل تأكيد، وهو نظام يعيد إلى القضية وهجها، وهو ليس نقيضاً للحقوق الوطنية غير القابلة للتصرف والتي تنص عليها قرارات الشرعية الدولية.
لنترك جانبا فيما إذا كان هذا البرنامج سيؤدي إلى قيام دولة واحدة، أو إلى قيام دولة على حدود الرابع من حزيران، أو إلى دولة ثنائية القومية، أو أي أشكال أو صيغ دولاتية من أي نوع كان، لأن الواقع في حينه سيفرض معطياته ووقائعه.
الشيء المؤكد الوحيد اليوم هو أن تفكيك نظام الفصل العنصري في إسرائيل يمكنه أن يكون برنامجا وطنيا شاملا لكل الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده وأيا تكن خصائص تجمعاته.
تحتاج الحالة الوطنية إلى جهد نظري (فكري) معمق حول هذه المسألة، وحول فيما إذا كان هذا التفكيك سيؤدي إلى الفشل التاريخي والعملي المباشر للمشروع الصهيوني على الأرض الفلسطينية.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.