في اليوبيل الذهبي لـ «المصير» وهذا المصير العربي ونحن منه!
مقالات

في اليوبيل الذهبي لـ «المصير» وهذا المصير العربي ونحن منه!

«إلى روح يوسف شاهين خالداً»
----
«إذا أردنا أن نعرف ماذا في إيطاليا، يجب علينا أن نعرف ماذا في البرازيل»، تلك عبارة حسني البورزان في مسلسل صح النوم من أكثر من 4 عقود: كنا أطفالاً في عمر الورد.
الآن أقول، إذا أردنا أن نعرف ما في أي بلد عربي شقيق، علينا أن ندرس التاريخ السياسي، خصوصاً ما بعد الاستقلال.
باختصار، وهذا هو موضوع المقال: لو كان الحكم صالحاً لما استفردت القوى الظلامية بعقول الشباب والجمهور بشكل عام، حيث صارت تلك القوى للأسف مجالاً بديلاً، راح الناس ينشدونه كرد فعل لما يكون، لا عن وعي تماماً.
والنتيجة وصول الإسلام السياسي إلى طريق مسدود، استدعى النظم السياسية لتطورات جينية، كما في الخيال العلمي، وكان ما كان، وللقارئ/ة وعي الشهود على هذه المرحلة العجيبة، غير القابلة للوصف، بمعنى صار المواطن العربي يخيّر بين السيئ والأسوأ.
لا تقل لي: هل للمعرفة جدوى!
نعم لها..لا بدّ أن يكون لها ذلك، وستظل محرك الكون.
ولو بعد حين، ستتحقق وتتجلى سلوكاً فردياً شخصياً وعاماً وطنياً وإنسانياً.
«الأفكار ليها أجنحة محدّش يقدر يمنعها توصل للإنسان»، الكثير منا يذكر هذه العبارة التي وردت في الدقيقة 147 من فيلم «المصير»، في حوار مع المنصور، الذي هدد بحرق كتب ابن رشد. لقد اشتهرت المقولة وما زالت متداولة، وأظنها ستعيش طويلاً.
هل كان يمكن استعادة الجمهور وتحريره؟ هل كان بالإمكان فك التحالف بين نظم الحكم العربية والإسلام السياسي؟
تأخرت الاستجابة لا السؤال!
والمصير: وصول التيارات الدينية للحكم، بما تحمله من إقصاء للآخر، وسوء إدارة وحكم، كما في تونس ومصر وفلسطين، ومن قبل كقوى مهمة في الأردن، وكادت تصل في الجزائر، بعد الانتخابات المحلية التي حققت فيها فوزاً. ومعلوم أن تلك التيارات استطاعت الوصول لأسباب لها علاقة بأداء الحكم، أي كانت استجابة الجمهور هي استجابة رد الفعل الانفعالي.
والمصير، أنه بسبب الإشكاليات البنيوية الماضوية في تلك التيارات، فقد أخفقت في الحكم، فكان ذلك مدعاة لاستعادة النظام مدعوماً بالجيش للحكم، أي عدنا للمربع رقم واحد، في ظل هدم تحالف سابق، لكن لربما لم يكن مناسباً الآن، حيث كان هناك مجال لتجربة الشعوب لهذا النوع من الحكم، ليتم إسقاطه ديمقراطيا في أي انتخابات لاحقة. (سنرى التجربة التونسية مستقبلا كمثال).
كان التحالف السابق خطأ، فصار الصراع الحالي مربكاً، خاصة في مسألة تطبيق الديمقراطية.
في صيف عام 1997، ظهر فيلم «المصير». كان يوسف شاهين يدخل في السبعين بكل هذا الجمال والوعي، ونحن ندخل في الثلاثين، ولكل منا هنا أن يضع نقطة ارتكازه الزمني، من كان طفلا أو شابا أو كهلا، ومن كبر خلال تلك الـ 24 عاما التي مرّت، فكل له تاريخه الشخصي الذاتي مع العمل الأدبي والفني، الذي تتكرر قراءته أو مشاهدته.
الفيلم تاريخي، لكن باللهجة المصرية، لذلك، لا أدرى وقتها لم شعرت أنه إنما يتحدث عن الأمس القريب وعن الآن، وغداً.
امتلاك بعض الوعي عن التاريخ المصري السياسي المعاصر، وضعني أمام حالة ما يمكن أن نصفه، بالتحالف بين الرئيس الراحل أنور السادات مع جماعة الإخوان، بهدف سياسي وهو مواجهة المعارضة الناصرية واليسارية. وكذلك استمرار مجاملة السلطة للرأي العام الذي يؤثر فيه الإسلام السياسي، كبديل للسلطة لأسباب لها علاقة بالحكم والإدارة والعدالة، حيث تم السطو من خلال الشعبوية السطحية، المرتدية ثوب الدين، من قبل جماعات تعرف نقاط ضعف الشعب. ومنها تدينه.
صحيح أن إنتاج يوسف شاهين لفيلم «المصير»، عن حياة ابن رشد، جاء ردا (لحظيا) على ما حدث لفيلمه السابق في وقتها، وهو «المهاجر» الذي قد منع من العرض في دور السينما. لكن بالطبع جاء في سياق فك التحالف ضد التنوير، والقوى الديمقراطية واليسارية والقومية، لما لنظم الحكم من مصلحة بذلك اتفقت مع مصالحة التيارات الدينية التي تريد ملء الفراغ الذي هيأه لها نظام الحكم، بسبب ابتعاده عن الجمهور، ولا تود أي قوى أخرى تساهم فيه.
في الفيلم يبعد الخليفة المنصور ابن رشد كممثل للنخبة المتنورة، ومحذر للقائد من الجماعات المتطرفة من أجل كسب الجمهور من خلال شعبوية الشيخ رياض، الذي يستطيع تعبئة الناس ضد الفلاسفة، من خلال السيطرة على المساجد.
لذلك يمكن قراءة هدف الهتاف للمنصور في بداية الفيلم والنهاية، من خلال أحد أعضاء الجماعة، مدح لايصاله للغرور، وبذلك سيكرهه الناس، مما سيمنحهم مجالا للوصول للحكم.
لم يكن المنصور هو الخليفة، لكنه كان الشخصية الحاكمة فعلاً، التي لعلها أصيبت بغرور ما، شجعته جماعات الشيخ رياض، بل وراحت تنفخ به ليزداد غروراً، من أجل إسقاطه، من خلال إبعاده عن التنوير، وقد كان يتم ذلك إلا لطمع الشيخ رياض بالسلطة باسم الدين. في هذا الجو، تبدأ الفوضى والتطرف، تحريض المتطرفين الجمهور ضد الفلاسفة. يظهر الفيلم فهم الجماعات الدينية لنفسها كمرجعية دينية بعد الله ورسوله كما أعلن الشيخ رياض لحظة قتل المغني مروان، كذلك يظهره محباً للسلطة، حتى ولو كان ثمن ذلك التحالف مع الدول الأجنبية (فرنسا). كما أظهر استخدامها الشباب بعد مسح أدمغتهم، والزهد بهم والاستغناء عنهم بعد انقضاء دورهم.
ابتدأ الفيلم بسحل جيرار بيريل، مفكر فيلسوف في القرن الثاني عشر، في اللونج دوك بفرنسا، «وحرقه لكفره وترجمته لكتب ابن الكافر رشد»، وفقا لحكم محكمة التفتيش، حيث يهرب أخوه يوسف بطلب منه، فيذهب الى قرطبة حيث ابن رشد القاضي والفيلسوف والطبيب.
يلاحظ ابن رشد ما يحاك حول الفلاسفة، فينبه المنصور، لكن الغرور يجعله زاهدا، بل سيضحي فيما بعد بالفلاسفة وابن رشد لكسب الجمهور.
في محاكمة قاتل مروان، يبيع الشيخ رياض قاتل مروان، في حين يتحدث ابن رشد عن العقل مناط التكليف، فيكون الحكم مخففاً، يستغله الآخرون، «الأوصياء على الدين»، في الشكل بالطبع، من خلال تمثيل الجدية، في حين يظهر ابن رشد عادياً.
في مشهد مؤثّر آخر، يخاطب ابن رشد القاضي والفيلسوف قاتل مروان، فيجد عقله مستلباً، فينفعل قائلاً: «هو كل حد يحفظ آيتين يصير عالم..او يحفظ بيتين شعر يصير شاعر..ايش تعرف عن الرياضيات عن الطب عن حركة الكون، عن الحب والحق والعدل». ولا شك أن هذا المشهد له علاقة بسياق التكفيريين.
بنية الفيلم، الذي غدا عمره 24 عاماً، قائمة على هذا الصراع، وأساليب الجماعة للوصول للحكم، بأساليب مريبة، وصولاً لابن المنصور، عبدالله، الذي يحب الفن: الرقص والشعر، وارتياد «الملاهي»، حيث تربطه علاقة بالغجرية سارة أخت مانويلا. تستغل جماعة متطرفة برهان حيرة عبد الله وفشله في التعليم، وتسلط عليه أفرادا يتربصون به، من أجل تسهيل تجنيده من قبل أميرها برهان، وإقناعه بقتل أبيه المنصور وتولي الحكم.
يركز الفيلم على تحولات عبد الله عاشق الحياة، إلى أحد مريدي الشيخ «برهان»، الذي يشرف على تربية الأعضاء من خلال، كما قلنا، مسح أدمغتهم، حيث نشاهد ونسمع الرقصات الصوفية على وقع كلمات أغنية فيها عبارة «ملعونة تلك الحياة».
ففي سياق تحالف العسكري المنصور مع الشيخ رياض، يتم التحريض على الفلاسفة ومنهم ابن رشد الذي يتم حرق كتبهم ونفيهم.
تتعرض كتب ابن رشد للحرق مرتين، الأولى بتدبير من الجماعة المتطرفة، لكنها لا تنجح، حيث يكون الشاب الفرنسي يوسف قد اخفاها، والثانية حين يتم الإعلان عن حرق الكتب، حيث يكون المنورون قد توقعوا ذلك، فنسخوا عدة نسخ، لنشرها في فرنسا ومصر.
ينجح برهان إلى حد كبير، لكن مانويلا ومروان ينقذانه من القلعة، لكنه يظل مصراً على موقفه، حتى مقتل مروان، حيث يستيقظ عبد الله من غفلته، يساعده في ذلك أخوه الأكبر عبدالرحمن الناصر، ولي العهد الذي تعلم على يد الفيلسوف المفكر ابن رشد. في مشهد مؤثر، يخبر عبد الله أباه المنصور بما كانت تعده الجماعة له، عن طريقه. يصطف الأخوان الناصر وعبد الله مع والدهم المنصور في حربه ضد الفرنجة، ويوقع المنصور بالشيخ رياض، بأن يكون وجماعته في مقدمة الجيش، رغم استعطاف الأخير بأنه كبير في السن لا يصلح للقتال.
في الفيلم إيحاءات أخلاقية وفكرية، بأن الفن لا يتناقض مع الدين، حيث كان هناك انسجام بين مروان وابن رشد الذي عالجه من إصابته الأولى على يد المتطرفين الذين أرادوا إسكاته.
لذلك جاءت أغنية «علي صوتك بالغنا لسة الأغانى ممكنة»، من ألحان كمال الطويل، مناسبة في مكانها، وتم توظيفها لتتحدث عن الآن، حتى انها اشتهرت أكثر من الفيلم.
سينمائيا، من نحن لنتحدث عن سينما يوسف شاهين، لكن سأتحدث عن مشهدين عظيمين:
الأول مشهد حرق جيرار بيريل في اللونج دوك بفرنسا، حيث أظهر خلال نصف دقيقة ردود فعل الحضور من النساء والرجال.
الثاني: مشهد محاولة اغتيال المغني مروان، حيث تظهر علاقات سرية متخفية بين رجال ونساء، يغض المتطرفون النظر عنها زاهدين بها، في حين يهمون بقتل مروان. كأنه المخرج هنا يعريهم، كونهم حريصين على السلطة لا على تطبيق الدين والأخلاق.
كما بدأنا ننهي: سيظل للمعرفة جدوى.
وكل ما له علاقة بجوهر وجودنا على الأرض ينبغي أن يكون دافعا وطنيا وقوميا وإنسانيا ووجوديا، للتوعية عليه، وتحدي ما يشدنا بعيداً عن الأرض.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.