بداية افول النظام السياسي الفلسطيني وسلام الأوهام!!
يعاني النظام السياسي الفلسطيني من أزمة داخلية عميقة وبنيوية لم تعد تخفى على أحد،ولم تكن قضية قتل الناشط نزار بنات وما تبعها سوى أحد مظاهر هذه الأزمة،ويمكن إرجاع ذلك لأسباب عديدة منها فشل العملية السياسية التي انطلقت منذ بداية التسعينات وراهنت على حل وسط عبر مفاوضات تحت عنوان حل الدولتين،وانتهت إلى حالة تطرف عنصري شامل في المنظومة الإسرائيلية، واختلال في موازين القوى وامعان الإحتلال في ممارسة التطهيرالعرقي ضمن منظومة أبارتهايد وتمييزعنصري شامل لكل مكونات الشعب الفلسطيني،أضف إلى ذلك فشل كل محاولات ووساطات إنهاء الانقسام الداخلي الذي تكرس منذ عام 2007 بوجود سلطتين متنافستين متناحرتين تحت حراب الإحتلال على أرضية تناقض سياسي وخلافات برامجية في الساحة السياسية،وكذلك التراجع الخطير للديمقراطية خصوصاً بعد قرار إلغاء الإنتخابات التشريعية والرئاسية الفلسطينية،على الرغم من مرور أكثر من 15 عاماً على آخر انتخابات فلسطينية، وعودة مظاهر الاعتقال السياسي والمس بحرية الرأي والتعبير والاعتداء على المتظاهرين في الساحات والشوارع في رابعة النهار،وأيضا الفشل في بلورة آلية للشراكة الديمقراطية كضرورة أساسية للتعددية السياسية في الساحة الفلسطينية، سواء على مستوى قيادة النضال الوطني او إدارة العمليات السياسية أو إدارة السلطة او إصلاح منظمة التحرير الفلسطينية، لتكون البيت الجامع والممثل لكل المكونات الفلسطينية، إضافة إلى أنماط التعصب الحزبي والفئوي والعشائري وتدهور الأوضاع الاقتصادية للفئات الفقيرة ومحدودة الدخل، والغضب الشعبي العارم من غياب العدالة الإجتماعية،إضافة إلى تجذر العشائرية بشكل كبير في المجتمع الفلسطيني فما شهدته مدينة الخليل في الآونة الأخيرة من اشتباكات مسلحة بين عائلتين وعدم قدرة السلطة على الإمساك بزمام الأمور يؤشر إلى تآكل شرعيتها وضفعها، وكذلك حديث المبعوث الأمريكي الخاص بالملف الإسرائيلي الفلسطيني هادي عمرو، عندما وصف السلطة الفلسطينية بأنها أشبه بغابة جافة تنتظر شخص ما لإشعالها.
في البدء لا بد من القول بأنه قد حاول العالم وباستجابة فلسطينية الى استحداث نظام سياسي فلسطيني تجسد في إقامة سلطة وطنية ذات صلاحيات محدودة جداً، على أجزاء من الضفة الغربية وكامل قطاع غزة المخترق وقتذاك بالمستوطنات،وقد ارتبط مشروع النظام الجديد بتطورات العملية السياسية التفاوضية مع إسرائيل،فإن مضت هذه العملية قدماً نحو إستكمال مشروع الدولة، فإن النظام السياسي الجديد يتطور ويتكرّس،وان فشلت العملية او تعثرت فلا مناص من أن يكون اول الضحايا هو النظام الجديد،وهذا ما حدث بالضبط فقد انتهى دور المجلس التشريعي بضربتين أولاهما عند قيام إسرائيل باعتقال عدداً كبيراً من أعضائه وثانيهما عندما حدث الانقسام الذي أجهز عملياً وسياسياً على اي عودة محتملة للنظام الجديد،فانهيار النظام الجديد أفرز تصدعات مروعة في كامل أنحاء الجسم السياسي الفلسطيني،فأصبح لدينا حكومتان متضاربتان ونظامان متناقضان،ودخلت الحالة الفلسطينية وتهاوت في مكان سحيق،وأخذ الصراع يدور حول سلطة محدودة ومهمشة وبائسة ذات أفق سياسي ضيق، مناقضاًتماماً لجوهر الصراع الأساسي الذي تشكلت الحركة الوطنية الفلسطينية على أساسه وهو الصراع مع إسرائيل.
وفي خضم العصف الفكري حول الحالة السياسية الراهنة، وقبل الولوج بالحديث عن السيناريوهات المحتملة لانهيار النظام السياسي الفلسطيني الذي جاء نتيجةً طبيعية لسلام الأوهام، فانه ينبغي التحذير وبصوت مرتفع من أن نهاية السلطة الفلسطينة لأي سبب كان هو بمثابة نهاية مأساوية لهذا الجيل من السياسيين والمفكرين والمناضلين، وإهدار لقرابين من الأرواح والنفوس قدمت على مذبح حرية فلسطين،ويجب إفساح المجال لجيل جديد اكثر صلابة من الآباء واكثر قدرة لإعادة انتاج حالة كفاحية فلسطينية قادرة على الإستمرار والتحدي،ويجب التذكير في هذا المقام بأن السلطة الفلسطينية لم تكن منحة مجانية وليست نبت شيطاني وجدناه صدفة،وإنما جاءت كثمرة من ثمرات نضال شعبنا الفلسطيني العظيم، عندما فرض نفسه على اللاعبين الدوليين بمقاومة باسلة،الأمر الذي أهله لإقامة رأس جسر على اول ارض فلسطينية متاحة وبناء كيانه السياسي واعمار أرضه، وهي الصورة التي تبدت فيها او خيّل للناظرين وكأن السلطة الفلسطينية الحلقة الأولى لاستكمال مقومات بناء الدولة الفلسطينية الحرة ذات السيادة،وعليه ونحن نقارب معضلة فشل حل الدولتين يجب ملاحظة اكثر من حقيقة متصلة بهذا السيناريو، خصوصاً اذا جاء الإعلان عن مثل هذا الفشل من الجانب الفلسطيني وجرى نفض اليد منه بصورة نهائية،لأن فشل حل الدولتين يضرب في صميم المشروع الوطني الانتقالي الفلسطيني،كما أن مثل هذا الإعلان بالفشل بصورة رسمية يعتبر هدية مجانية لإسرائيل التي لن تتوانى عن الإستثمار السياسي فيه والتحرر من كل التزام.
وما من ريب بأن المجازفة بقبول خيار فشل حل الدولتين على نحو طوعي ومن جانب واحد يضع النظام السياسي الفلسطيني في مأزق وجودي بصورة تلقائية،وأن نفض اليد الفلسطينية من مشروع الحل الوحيد المتوافق عليه دولياً على نطاق واسع من شأنه أن يرتد مباشرة على قوام السلطة الفلسطينية التي باتت رب عمل كبير لإعداد مهولة من العائلات الفلسطينية وهي مصدر التمويل الوحيد للبيروقراطية الإدارية والأمنية،لأن الطبيعة تكره الفراغ.
وقبل الاستطراد بالبحث في الموضوع يجب التمييز بين المشروع الوطني والنظام السياسي،فالمشروع الوطني هو تعبير عن طموحات وآمال الشعب الفلسطيني بالحرية والاستقلال،كما أن المشروع الوطني مشروع لكل الفلسطينيين وليس مشروع لحزب بعينه ولا يجوز أن يكون لكل حزب مشروعه الوطني،أما النظام السياسي سواء كان منظمة التحرير الفلسطينية او السلطة فهو أداة مؤسساتية لتحقيق هذا المشروع،وعليه فإن الخلل البنيوي يكمن في النظام السياسي بمؤسساته ونخبه وليس في المشروع الوطني بذاته،وهنا يداهمنا السؤال: ماذا لو انهار النظام السياسي الفلسطيني؟كيف العمل والمخرج اذا وقعت الواقعة؟أليس من واجبنا الاستعداد لسيناريو الانهيار..؟!
وعند الحديث عن انهيار النظام السياسي الفلسطيني،فربما يؤدي ذلك إلى اضطرابات وقلاقل وفتن وبدع واسعة النطاق في المجتمع الفلسطيني،ولربما ايضاً ان يؤدي إلى انهيار تام في البنية القانونية والأمنية والنظام في الضفة الغربية مما يزيد احتمالات دخول المنطقة في أتون مواجهة شاملة ومفتوحة مع الاحتلال عبر اندلاع انتفاضة فلسطينية ثالثة،وإعادة احتلال اسرائيل للضفة الغربية بشكل كامل، و من المنظور الاستراتيجي يمكن أن يقوض انهيار النظام السياسي الفلسطيني اهم دليل ملموس بل والوحيد على الجهود الرامية لتحقيق حل الدولتين،وسيؤدي إلى إرغام إسرائيل على التعامل مع الحقائق الديموغرافية الفلسطينية على اساس جديد تماماً، بما من شأنه ان يهدد الطبيعةالديموغرافية اليهودية للدولة،ويمكن أن يكون لذلك انعكاسات خطيرة على المصالح الأمريكية في المنطقة بل وتتجاوزها، ونكون والحالة هذه امام أحد سيناريوهين،الأول يتمثل في سيطرة حماس على الحكم، فحماس هي الرابح الأكبر من الانهيار، فلديها من الوسائل والمحفزات ما يجعلها تستطيع بسط سيطرتها لتمتد وتشمل الضفة الغربية استناداً إلى انتصارها في الحرب الأخيرة مع إسرائيل ولما تحظى به من قبول متنامي على المستوى الإقليمي،أما الثاني فيتمثل في ظهور قيادات محلية وعشائرية في أنحاء كبيرة من الضفة الغربية،وهذه القيادات ستكون عبارة عن مزيج بين رؤساء العشائر والزعماء المحليين وأمراء السلاح وأصحاب نفوذ مالي وتجاري وهو ما لا يمكن القبول به دولياً،وسيؤثر ذلك على الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والأردن الذين سيضطرون للتحرك سريعاً للحيلولة دون سقوط مدن الضفة الغربية في هاويةالفوضى التامة واحتواء اي اندلاع للعنف.
وفي خضم الحديث عن الواقع السياسي المأزوم، فيمكن القول بأنه لا يمكن الحديث عن نظام سياسي عندما تستسلم مكونات النظام السياسي لواقع الانقسام، بل وتقبل بتقاسم جغرافي بينها، وتغيب الاستراتيجية الوطنية لمقارعة الاحتلال ويتم التخلي عنها لصالح اتفاقات الهدنة والتنسيق الأمني،فالسلطة الفلسطينة تم تحويلها لمجرد مؤسسة تتكفل بتدبير أمور الحياة المعيشية ودون أن تستطيع منع إسرائيل من هدم منزل او بناء مستوطنة،وخاصة في ظل تفكك المنظومة القيمية الجامعة وانهيار النظام الاقتصادي مع وجود حكومة مفلسة، فعندما تصل الامور الى هذا الحد لا مجال للحديث عن نظام سياسي بالمعنى الحقيقي لان الوضع تجاوز مرحلة الحديث عن أزمة النظام السياسي وانتقل للحديث عن الانهيار شبه التام...!
مما سبق نخلص إلى القول بأنه للخروج من عنق الزجاجة لا بد من تحقيق مجموعة من الأهداف، وهي التوافق على برنامج كفاحي مقاوم للاحتلال والاستيطان والمشروع الصهيوني،وبناء منظومة ديمقراطية داخلية تعتمد على مبدأ الشراكة واحترام رأي الشعب الفلسطيني، وذلك عبر الإعلان عن إجراء إنتخابات ديمقراطية تشريعية ورئاسية،ويتبع ذلك تشكيل قيادة فلسطينية موحدة على اساس نتائج الانتخابات،وكذلك تغيير وظائف السلطة سواء في الضفة او غزة بحيث يكون عملها منصباً على تحقيق حلم الدولة وليست محصورة في تسيير الامور الحياتية، وإعادة مركز الثقل السياسي إلى منظمة التحرير الفلسطينية بعد إصلاحها،وإلغاء كل ما يتناقض مع المشروع النضالي،فالشعب الفلسطيني منزرع وقوفاً في أرضه وليس على ظهر مركب عائم ولا على رصيف ميناء بحري، وهو شعب ممتلئ بالحيوية ومترع بالوعي وغير قابل للمحو ومنتصب القامة كالرماح ولن يتعب ولن يكل بناءاًعلى ما قال الشهيد ناجي العلي...