متى يرتدع العقل الإسرائيلي؟
وكأن القوة الغاشمة يمكن أن تشكل ضمانة استقرار الدول المركبة وفق متطلبات أهداف ومشاريع استعمارية، يعتقد جنرال اسرائيلي متقاعد، بأن قدرات إسرائيل السيبرانية، وتفوقها العسكري قد وضعا حداً لسؤال وجودها.
بين الحين والآخر، يخرج على مسرح الأحداث خطاب اسرائيلي عنجهي مغرور، بأن الجيش الإسرائيلي لا يقهر، وانه يتفوق على كل التهديدات المجاورة، العربية والإقليمية، وانه يملك قدرات ردعية لا تمسها ادعاءات الآخرين، وتهديداتهم، وبأن سلاح الطيران درة الجيش وعليه تنعقد أحلام إسرائيل بحماية وجودها واستقرارها.
ينسى هؤلاء أو انهم يتناسون، ان الجيش المصري، قد حول أسطورة الجيش الذي لا يقهر، إلى جيش يمكن ان ينكسر، وذلك إبان حرب الاستنزاف، وحرب أكتوبر 1973. وينسى هؤلاء ويتناسون ان المقاومة اللبنانية، أجبرت هذا الجيش على الانسحاب بمبادرة إسرائيلية تحت ضربات المقاومة، وانه أيضا يعاني من تآكل قدرته على الردع في جولاته العدوانية على قطاع غزة.
صحيح ان تطورات الأحداث على مدار عقود، أدت الى تحييد دور الجيوش العربية ابتداءً من اتفاقات كامب ديفيد، ثم اتفاقية وادي عربة، وقبلها تدمير قدرات الجيش العراقي، بعد غزو الكويت، وتعرض العراق الى احتلال أميركي.
غير ان تلك التطورات خلقت معادلات تنطوي على شروط اكثر تعقيداً من دور الجيوش العربية الرسمية، إذ نشأت لسد الفراغ قوى مقاومة شعبية، تحسب لها الآلة العسكرية الاسرائيلية ألف حساب، وتفشل إسرائيل في احتوائها.
إسرائيل التي تتبجح بقدراتها العسكرية الفائقة والمتفوقة بدعم لا يتوقف من الولايات المتحدة، وتتبجح بقدراتها الاستخبارية، وقوة جهاز "الموساد" واجهت خلال الأشهر المنصرمة اكثر من فشل استخباري، بعضه تعترف به المراجع الأمنية والعسكرية وبعضه الآخر لا تعترف به، ولكن إقدام تلك المراجع على تشكيل اربع عشرة لجنة تحقيق تشير الى مواطن ضعف استخباري وسوء تقدير سياسي أوقع حالة من الإرباك في الاستراتيجيات السياسية الاسرائيلية.
فشلت المصادر الاستخبارية أولاً، حين بنت سياساتها على أساس أن بإمكانها ان تتصرف مثلما تشاء في القدس لتكريس هيمنتها على ما تسميه عاصمتها الأبدية الموحدة، وذلك باعتماد سياسات التطهير العرقي، وخنق المقدسيين، وتوسيع الاستيطان اليهودي وتغيير معالم المدينة الفلسطينية. أدارت إسرائيل الرسمية مخططات يشترك فيها المستوطنون المتطرفون، مع الجيش والشرطة، لفرض التقسيم الزماني والمكاني على المسجد الأقصى، لكن فشلت في تقدير مكانة المسجد والقدس لدى الفلسطينيين وعلى المستويات العربية والإقليمية والدولية.
الفشل أصاب المؤسسات البحثية والدراسية والأمنية، حين لم تأخذ مستويات القرار في الاعتبار ان المقاومة في غزة، يمكن ان تتحرك خارج المعادلات التقليدية التي وضعت هدف إنهاء او تخفيف الحصار عن غزة كأولوية مطلقة لكل ما تقوم به.
ثمة ما يشير الى أن مستويات القرار السياسي والأمني فوجئت بمبادرة فصائل المقاومة حين أطلقت الصواريخ، وكان ذلك خلافا لما درجت عليه الأحداث حيث كانت إسرائيل هي المبادرة في شن الاعتداءات على قطاع غزة. راهنت إسرائيل على سياسة الفصل، والانقسام فكان الرد أنها لا تستطيع ذلك، فأهل غزة وأهل الأراضي المحتلة العام 1948 كما أهل القدس والضفة، موحدون في مواجهة السياسات الإسرائيلية التي تنكر وتتنكر لحقوقهم الوطنية المشروعة.
وفشلت المراجع الاستخبارية الاسرائيلية، حين فوجئت بهبة الفلسطينيين في الأراضي المحتلة العام 1948، وحالة النهوض الوطني والقومي التي عمت كل ارض فلسطين التاريخية، ما فرض على صناع السياسة في إسرائيل إعادة النظر في السياسات الفاشلة التي اعتمدوها لأكثر من سبعين عاماً لأسرلة الفلسطينيين من مواطنيها، وفرض أجندة حقوقية إنسانية على نضالاتهم.
وفشلت المراجع الاستخبارية الاسرائيلية خلال الجولة القتالية المحدودة التي وقعت مؤخراً، في الشمال مع لبنان، حين اعتقدت ان "حزب الله" سيتنصل من المسؤولية عن إطلاق الصواريخ، وانه لن يرد على القصف الإسرائيلي الذي تعرضت له مناطق واسعة من جنوب لبنان.
وفشلت المراجع الاستخبارية في تقدير حجم الخسائر التي تعرضت لها المقاومة خلال العدوان الأخير، سواء فيما يتعلق بالأنفاق أو عدد الشهداء من القادة والمقاومين الفلسطينيين، فلقد جاءت الأرقام من المقاومة لتحجم الادعاءات الإسرائيلية.
وكان على إسرائيل ان تعترف بفشل سلاح الطيران، المدعوم بسلاح البحرية، وسلاح المدفعية والدبابات، في تدمير منصات إطلاق الصواريخ التابعة للمقاومة.
استخدمت إسرائيل طائرات "اف 15" و"اف 16"، وطائرات "الشبح اف 35"، لكنها فشلت كلها في ان توقف إطلاق الصواريخ من قطاع غزة، وفشلت أيضا كل أجهزتها السياسية والأمنية والعسكرية، في تقدير حجم ونوع ردود الفعل الدولية، خصوصاً على مستوى المجتمعات الغربية، والمجتمع الأميركي وتعترف بفشلها في كسب معركة الإعلام الذكي، حيث تفوق الشباب الفلسطيني في معركة الوعي، عبر منصات التواصل الاجتماعي. متى يمكن للعقل الإسرائيلي ان يصحو على حقائق الأمر الواقع، بما يشكل رادعاً لسياساتها العنصرية التوسعية؟