الاحتلال الناعم الخفيّ
يتردد في الآونة الأخيرة مصطلح “تقليص الصراع” في وصف لمقاربة إسرائيلية قديمة – جديدة عرضها المؤرخ الإسرائيلي ميخا غودمان في كتابه “المصيدة”، وأعرب رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي نفتالي بينيت عن تبني جوانب منها. وهذه المقاربة هي شكل من أشكال إدارة الصراع من دون بذل جهود جدّية لحلّه، وبالتالي هي تتبنى مبدأ إدامة الاحتلال، ولكن مع تلطيفه وتخفيف أثره على الفلسطينيين، وتلافي أسباب الاحتكاك اليومية، ومن ثمّ تجنيب إسرائيل سيل الانتقادات الدولية التي تمسّ سمعة دولة الاحتلال ومكانتها وبالتالي قد تعرضها لعقوبات مستقبلية، فضلا عما يحمله نمط الاحتلال الحالي من عبء أخلاقي لكون إسرائيل تتحول يوما بعد يوم إلى دولة تمييز عنصري “ابارتهايد” فاقع.
وقد عرض المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار) في نشرة المشهد الإسرائيلي مطلع الشهر الحالي، ملخصا لهذه الرؤية من إعداد الباحث وليد حباس الذي شارك أيضا في ندوة متخصصة لهذه الغاية مع مديرة المركز هنيدة غانم، ومدير مركز مدى الكرمل مهند مصطفى، وخلاصة مفهوم “تقليص الصراع” تتركز في تجميل الاحتلال وإدامته، واتخاذ عدد من الخطوات التي تقلل الاحتكاك مع الفلسطينيين، مع بقاء السيطرة الإسرائيلية الكاملة على الأراضي المحتلة بما يشمل القدس الموحدة، والاحتفاظ بالمستوطنات بل وتوسيعها، والسيطرة على المناطق المصنفة (ج) وعلى الحدود والمعابر والأجواء والموارد والمياه، وعدم التطرق نهائيا للحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني وبخاصة حق تقرير المصير وإنهاء الاحتلال.
تقليص الصراع وتجميل الاحتلال بحسب هذه الرؤية يشمل تكريس فصل غزة عن الضفة، وتمكين الفلسطينيين من السفر والانتقال عبر الضفة الغربية من دون الاحتكاك بجنود الاحتلال والحواجز، وتسهيل سفر الفلسطينيين عبر الجسر وحتى عبر مطار اللد، واتخاذ مبادرات وخطوات ملموسة لتحسين حياتهم الاقتصادية بما في ذلك زيادة تصاريح العمل في إسرائيل، وإقامة مناطق صناعية، ورفع القيود الواردة في بروتوكول باريس، بل تذهب هذه المقاربة – التي يطرحها المؤرخ غودمان وليس نفتالي بينيت- إلى حد استعداد إسرائيل للاعتراف بدولة فلسطينية والمبادرة لمطالبة الأمم المتحدة بذلك من دون تعيين حدود هذه الدولة.
جوهر هذا الاقتراح إذن هو تكريس وتثبيت ما آلت إليه تطبيقات اتفاق أوسلو من واقع حالي، أي الحكم الإداري الذاتي المحدود، واعتبارها سقفا لطموحات الفلسطينيين الوطنية، مع تحسينات ظاهرية لنمط حياتهم، هي في الحقيقة تخفيف للقيود المشددة والانتهاكات اليومية والتدخلات الفظة من قبيل الاقتحامات والمداهمات اليومية والاغتيالات والاعتقالات وهدم المنازل والمنشآت، والتنكيل بالفلسطينيين على الحواجز والحدود. كما أن الاقتراح بعناصره الرئيسية وثيق الصلة بالرؤية التي طرحها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بنيامين نتنياهو قبل سنوات والقائمة على استحالة إيجاد حل سياسي مع الفلسطينيين في هذا الجيل، والاستعاضة عن ذلك بإنجاز “سلام اقتصادي”، وهذه الرؤية جرى تطويرها لاحقا إلى الصيغة التي عرضتها صفقة القرن بين ترامب ونتنياهو، والتي تبنت التسوية الإقليمية وتطبيع العلاقات بين إسرائيل والدول العربية، وتأجيل الحل مع الفلسطينيين إلى ما بعد إنجاز هذه التسوية الإقليمية المزعومة.
يمكن اعتبار هذه المقاربة الإسرائيلية لاحتلال ناعم وخفي لا يلمس الفلسطيني العادي أثرا له في حياته اليومية، حلا لمشكلات إسرائيلية سياسية وأخلاقية قبل أن تكون محاولة لحل مشكلات الفلسطينيين وتخفيف معاناتهم، والتدقيق في المواقف الدولية من الاحتلال يظهر أن معظم ما تتعرض إسرائيل من انتقادات في الحلبة الدولية سببه الممارسات والانتهاكات الإسرائيلية لحقوق الإنسان الفلسطيني وأرضه ومقدساته، وليس بسبب الاحتلال في حد ذاته الذي يمثل الجريمة الأساسية بحق الفلسطينيين وكل ما ينشأ عنه هي نتائج وظواهر ملازمة للاحتلال. واللافت والمؤسف في الوقت عينه أن التركيز على ممارسات الاحتلال وفظائعه وليس على الاحتلال يتسرب يوميا إلى الخطابات المؤيدة للفلسطينيين، بل حتى إلى الخطاب العربي والفلسطييني، مع ضرورة الإشارة هنا إلى أن جميع الاتفاقيات التي أبرمتها منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الفلسطينية مع إسرائيل لم تتطرق بتاتا إلى قضية الاحتلال، ولم تشر من قريب أو بعيد إلى “إنهاء الاحتلال” باعتباره جوهر الحل السياسي المنشود.
إسرائيل لم تتبنّ حتى الآن رسميا مقاربة “تقليص الصراع”، وما زال الأمر في حدود إعجاب نفتالي بينيت ببعض عناصر هذه الرؤية واستخدامه المصطلح في كلامه قبل أسابيع، وربما كان استخدامه لهذا المصطلح من قبيل إظهار أنه رئيس وزراء جدي وليس مجرد رئيس صدفة وتسوية عابرة كما هو فعلا، وبالتالي الإيحاء بأن بينيت صاحب رؤية وحلول، ويبدو أن تبني مثل هذه الرؤية لن يكون أمرا سهلا في ضوء الخريطة السياسية الإسرائيلية المعقدة، وطبيعة التحولات الجارية في إسرائيل، والثقافة العنصرية التي نشأت وتعززت لدى قطاعات واسعة من الإسرائيليين سواء كانوا من الجمهور العريض أو لدى كبار المسؤولين في الدوائر الحكومية والأمنية والعسكرية، فعقلية الترحيل الجماعي (الترانسفير) وما يرتبط بها من سياسات لتهجير الفلسطينيين وجعل حياتهم أمرا لا يطاق، ما زالت حاضرة في الممارسات اليومية الإسرائيلية. كما أن التطرف والعنصرية والاستهانة بحياة الآخر غير اليهودي، عزز منطق وسلوك “العصابة” والتصرف بمنطق ثأري وانتقامي وممارسة العقوبات الجماعية ضد شعب كامل، بدل منطق الدولة والمؤسسات والقانون الذي تنسبه إسرائيل لنفسها من باب التبجح والدعاية.
ليس من السهل على حكومة بينيت بحكم تركيبتها وطبيعة مكوناتها تبني خيار انعطافي كخيار “تقليص الصراع”، لكن مبدأ إدامة الاحتلال وتلطيفه وتخفيف وطأته عن الفلسطينيين سيبقى حاضرا في المداولات الإسرائيلية والأميركية والدولية، والخشية تكمن في أن يشكل ذلك ستارا لحجب المشكلة الأساسية وهي الاحتلال، أما الخشية الأكبر فهي أن يشتري العالم هذه البضاعة المغشوشة وأن تنطلي على بعض العرب والفلسطينيين.