إشاعة اليأس بدلاً من تربية الأمل!
منذ أن بدأت مسيرة إهدار ما حققه الشعب الفلسطيني من إنجازات وطنية كبيرة أثناء وبعد هبة "الشيخ جرّاح"، وبعد ان وقف العالم لنصرة حقوق شعبنا في مشهد غير مسبوق، وبعد أن تحققت لشعبنا وحدة ميدانية طالت عنان السماء، وبعد أن تلاحم الداخل الفلسطيني مع الضفة والقطاع، وتلاحم كل الداخل مع كل الخارج، وبعد أن خرجت التظاهرات في كل ركن من أركان المعمورة منددة بالاحتلال وعنصريته، وبعد أن بلغت حملات وموجات التضامن مع شعبنا "القلعة الإسرائيلية" في الولايات المتحدة نفسها، وامتدت هذه الحملات أفقياً وعمودياً في طول بلاد الأميركان وعرضها وانتقلت إلى الشركات والمؤسسات والكنائس، حتى وصلت الى مئات من رجالات الفكر والسياسة فيها... بعد كل ذلك، وبعد ذلك مباشرة انطلقت مسيرة الغرائب والعجائب بسرعة لافتة لإهدار كل ذلك، والقضاء على كل ذلك...
أتكون مصادفة؟
لا يمكن للمرء أن يكون عاقلا، موضوعيا، حذرا، مجربا ومسيّسا دون ان يساوره الشك بهذه المفارقة وهذه الصدف.
هذا الشك ليس له أي علاقة، لا من قريب ولا من بعيد لما يعرف بنظرية المؤامرة، وليس له أي علاقة بالمواقف المسبقة من هذا الطرف او ذاك في الساحة الوطنية، هو أمر لا يتعلق مطلقاً بخلفية فكرية او ثقافية.
الأمر هنا يتعلق بالانتماء الوطني، وبالشعور الوطني، وبالمسؤولية الوطنية.
لو أجرينا، اليوم، استفتاءً على الناس، في كل بقعة من فلسطين، رجالاً ونساءً، شيوخاً وأطفالاً، ذكوراً وإناثاً، معارضين أو موالين، من كل القطاعات ومن كل المهن. في الريف أو المدينة أو المخيم... لو أجرينا مثل هذا الاستفتاء، أو حتى الاستقصاء بالسؤال فقط عن رأيه فيما يحصل لدينا من أزمات داخلية، ومن مناكفات وانتهاكات، وفيما نعاني من اختناقات وخناقات، وفيما وصلنا إليه من انحدارات وتصدعات، وفيما ينتابنا من هواجس ومخاوف، وفيما يلمّ بنا من مشاعر الحزن والشعور بالخجل، ومن غصة في الحلق، ومن وجع في القلب، لو سألنا السؤال التالي:
هل كل ما نحن فيه، وكل ما نعانيه، وكل ما نقترفه ونقوم به هو صدفة محضة؟
سيجيب ـ وأنا لا أجازف هنا بشيء ـ الجميع، أو بما يصل ويقرب من الإجماع أن الأمر ليس صدفة، وان وضعنا، اليوم، وما وصلنا إليه، والسرعة التي وصلنا بها، والأساليب التي باتت تحكم علاقاتنا، و"الثقافة" التي تتسيد على هذه السلوكيات وهذه الأساليب.. لا يمكن ان تكون بالصدفة، والأمر ليس مجرد حالات ارتجال، ولا يتعلق كل ما قمنا به حتى اليوم، وما نحن مرشحون للقيام به لاحقاً بالصدفة، وإنما هو من حيث الأسباب والدوافع، ومن حيث السياقات والنتائج، ومن حيث حجم الأذى والضرر، ومن حيث الأثر والتأثير على كل مشروعنا، وعلى وجودنا ومستقبلنا... إنما هو حالة تدمير منظم، وحالة تيئيس هادفة وواعية وقد تكون مدروسة أيضاً.
قد لا تكون الجهات، من كل أنواع الجهات، وفي كل الوجهات والتوجهات واعية بالكامل، وبنفس القدر، ومن نفس الزوايا والمنطلقات، وقد لا تكون كل الأجندات على نفس النسق، ولا على نفس الدرجة من المصالح والاعتبارات ولكن النتيجة هي واحدة وموحدة. اليأس والكفر والتكفير، ليس بالمسلّمات الدينية وإنما الكفر والتكفير بالمسلّمات الوطنية.
المجتمع الفلسطيني يدفع دفعاً، ويدفع بقوة في غزة والضفة والقدس والداخل الى اليأس والى الإحباط!
من هم أصحاب المصلحة العليا في وصول المجتمع الفلسطيني إلى هذه النتيجة؟
هل هو الاحتلال فقط؟
أم ان من بيننا أيضاً من له مصلحة "ما" في الوصول الى نفس النتيجة؟
أليس من بيننا من يعتقد أن فرصته في إقامة كانتون او إمارة في قطاع غزة باتت مرهونة ومشروطة باليأس؟
أليس من بيننا من يعتقد ان حلولاً قادمة قد تبقي لنا حكما ذاتيا مزدهراً بـ"السلام الاقتصادي" في كانتونات الضفة؟
أليس من بيننا من يرى أن قضية القدس قد انتهت وحسمت، وأن أقصى ما يمكن أن "نقوم" به هو مدّ المدينة بالمشاريع الخليجية؟
أليس من بيننا من روّج للانتصارات العظيمة ليستفيق المواطن الغلبان والمواطنة الغلبانة على أن أقصى مطالبنا باتت العودة إلى الوضع الذي كان قائماً قبل الحرب الأخيرة؟
أليس من بيننا من يراكم الثروات بالملايين في الوقت الذي وصلت فيه معدلات الفقر الى أعلى المعدلات العالمية؟
أليس من بيننا من يسخّر كل مقدرات السلطات، من كل أنواع السلطات (السلطات التي لا سلطة لها) للحزب والتنظيم والمحاسيب والأقارب وأبناء الذوات؟
وهل فعلاً أن ازمتنا تبدأ وتنتهي عند منع تظاهرة او فض تجمع على المنارة، او في ساحة الشهداء؟
وهل اختصار كل أزماتنا وحشرها في هذه الزاوية "عنوة" هو الدليل الذي ما بعده دليل على دوام الرفعة والاستقرار والازدهار؟
وإذا كان هذا هو حال القائمين على السلطات في بلادنا، فما هو حال المعارضين لهذه السلطات؟
أليست المعارضات في بلادنا جزءاً من مقولات ومفاهيم الإرث والميراث والوراثة؟
ألا تتوزع هذه المعارضات بين محورين ثابتين من الولاء والاسترضاء؟
ألا يسود منطق (انصر "أخاك" ظالماً أو مظلوماً) في مواقف هذه المعارضات، وفي سياساتها وسلوكها؟ إلا ما "رحم ربّي"؟!
أين هي مصالح الناس الغلابى في خطاب المعارضات، وفي أجندات أهل الولاء، والبراء والاسترضاء؟
وهل أكلت الناس خبزاً من المواقف السياسية الكبيرة ـ موالاةً أو رفضاً، وهل شعر الغلابى ان لهم ظهرا يحميهم ويدافع عن مصالحهم؟
ألا تنقسم المعارضات بين من أضاع هويته، ومن نسيها على طاولة اقتسام الكعكة، ومن تنازل عنها طواعية وعن طيب خاطر إيراني او تركي او قطري او غيره؟ وبين من يحاولون تجميل الواقع بتعديلات وزركشات مستهلكة، وبين من يتوثبون لاستحضار حروب جديدة، و"انتصارات" جديدة تضيع القضية الوطنية، ويعمّ اليأس ويبتعد الأمل ونسير بأرجلنا نحو المجهول.
لكن، مهلاً، لن يطول هذا المجهول لأن شباب وشابات فلسطين يعرفون كيف "يربّون الأمل" أيضاً.