فدائي
مقالات

فدائي

تعال يا ابن عمي اكتب قصتي مع هذا الفدائي العظيم، وصلتني هذه الرسالة من ابن عمي الطبيب (خالد خدّاش) في مشفى المقاصد في القدس، ( أتذكّر مشهداً في أول الستينيات حدث معي لم أستطع نسيانه حتى الآن، كنتُ ألعب مع أقراني في الشارع الرئيسي لقرية أبو شخيدم التي لجأ إليها أهلي من قريتي الأصلية بيت نبالا، كنتُ في العاشرة من عمري، وكانت صورة الفدائي الفلسطيني غير واضحة في عيوني، لكنّ صورته كانت جذّابةً ومهيبةً، كان زمناً نضالياً ينقسم بوضوح إلى أشرار ممثلين بالصهاينة، وضحايا ممثلين بنا نحن الشعب الفلسطيني، وكان العمل الفدائي متمثلاً بتسلل الفدائيين عبر الجبال والوديان إلى مدن فلسطين المحتلة، أتذكّر المشهد جداً، قفز أمامنا فجأة من حيث لا ندري أربعة رجال ملثمين حاملين البنادق على أكتافهم، صحنا جميعاً: "فدائية، فدائية"، لحقنا بهم نصرخ، ونهتف لفلسطين وللفدائية.
وأخيراً رأيت الفدائية، تابع ابن عمي الطبيب، الفدائية الذين ألهموني فكرة أن أكون فدائياً أنا الآخر فيما بعد، دخل الفدائيون الأربعة إلى الجامع، وناموا هناك، في الصباح أحضرنا لهم الماء وساندويشات الزعتر، شكرونا بلطف، وكنّا سعداء جداً، وتمنينا أن يأخذونا معهم إلى داخل فلسطين، "وأخيراً شفنا فدائية"، قال كل منّا لأهله.
مرّت الأيام والسنون، غاب الحدث، لكنّ صورة الفدائية لم تغب عن عيني أبداً، ظللتُ أحلمُ بهم، تخرّجتُ من الجامعة، صرتُ طبيباً في المقاصد، ولم أتوقف عن رواية هذه القصة لأصحابي، لم أعرف أسماء الفدائية طبعاً، دعوتُ الله أن يكونوا قد نفّذوا العملية، وعادوا إلى قواعدهم سالمين.
في يوم ما اتصل صديق عزيز من غزة، وطلب مني الاعتناء بمريض قادم من غزة يعاني من مشاكل في القلب، ذهبتُ إلى المريض السبعيني، كان لطيفاً، وسألني: من أين أنت؟ قلت له: أسكن مخيم الجلزون، والأصل من بيت نبالا قضاء الرملة.
- الجلزون، آه، مررتُ بهذا المخيم أثناء تسللي مع مجموعة من الرجال داخل فلسطين في الستينيات.
هنا لا أعرفُ لماذا أحسست أن هذا الرجل السبعيني هو أحد هؤلاء الفدائية، لكنني استبعدت فوراً هذه الاحتمالية لسبب لا أدريه، لكنّه حين تابع كلامه، وقال: نمنا في جامع قرية مجاورة للمخيم، أدركتُ فوراً أن هذه صدفة عجيبة تحدثُ أمامي، أكملتُ أنا عنه، وفي الصباح أحضر لكم الأولاد الماء وأرغفة الزعتر.
- نعم، نعم هذه القرية اسمها أبو شخيدم.
- نعم، نعم.
- يا عمي الفدائي العظيم، أنا كنتُ أحد هؤلاء الأطفال الذين أعطوكم الماء، والطعام.
- أوه ، أوه، وضع الفدائي القديم يديه على رأسه، وصاح: نعم، نعم، نحن هم، نحن هم، نحن هم، استُشهد الرجال جميعاً، واعتقلتُ أنا، ما اسمك يا عم؟
- أنا سليم الزريعي.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.