قمة بغداد.. كيف اجتمع الفرقاء؟!
الذين يفكرون بطريقة رومانسية، في منطقتنا العربية، أو يعتقدون أن السياسة ثابتة وجامدة، سوف يندهشون تماما من انعقاد «قمة بغداد للتعاون والشراكة»، ظهر السبت الماضي.
هؤلاء سوف يظلون مندهشين دائما حينما لا تسير الأمور بنفس المنطق الجامد الذي يفكرون به منذ سنوات.
لا يعنى كلامي السابق أن الصراعات والخلافات بين الدول قد اختفت، أو أننا لن نشهد محاور وأقطابا عالمية وإقليمية. بالعكس هذه الصراعات ستستمر، لأنها سمة من سمات الحياة نفسها، الفارق فقط أن الذي سيختلف هو طريقة إدارتها.
من يتأمل الحاضرين لقمة بغداد، قد يتفاجأ بأن أشد الناس تفاؤلا لم يكن يتخيل أن مصر والسعودية والإمارات من الممكن أن تجتمع مع قطر وتركيا في مكان واحد، ولم يكن يتخيل أن تجلس السعودية والإمارات مع إيران. لكن ذلك حدث بالفعل.
السؤال الذي يسأله كثيرون، ما الذي جعل كل هؤلاء الفرقاء يجلسون حول مائدة واحدة؟!
الإجابات متنوعة، وتتوقف على الزاوية التي ينظر بها كل منا للحدث.
المؤكد أن بعض الحاضرين خصوصا مصر يريد دعم استقرار العراق وعودته لأمته العربية بأقوى ما يكون، وبعضهم يتمنى أن ينجح رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي في أن يكون بلده ساحة للتعاون وليس للصراعات الإقليمية والدولية، وبعضهم ربما حضر القمة من باب رفع العتب، حتى لا يكون غيابه مفهوما بأنه يعارض فكرة عقد المؤتمر، لأنه أحد أسباب عدم الاستقرار في العراق.
لكن وإضافة لكل التفسيرات السابقة التي تظل جزئية، فإن هناك سببا جوهريا ربما ساعد في عقد هذه القمة، وهو أن العالم الذي نعيشه، لم يعد يتعامل بالصورة القديمة التي كانت تدار بها العلاقات الدولية، خصوصا بعد انتشار فيروس كورونا وتأثيراته واسعة النطاق على كل مناحي الحياة.
قبل قمة بغداد، رأينا نموذجا لهذا النوع الجديد من الدبلوماسية بين روسيا وتركيا، الدولتان تتصارعان فعليا في سورية وليبيا، لكنهما تتعاونان وتتحالفان مثلا في ملفات أخرى عسكرية واقتصادية وسياحية من أول تصدير الخضراوات والفواكه نهاية بصفقة صواريخ «إس ٤٠٠». هذا النموذج ألغى فكرة الصراع السرمدي أو المبادرة الصفرية التي لا تنتهى، وجعل البعض يلجأ إلى صيغة: «لنتفق على ما نتفق عليه، ويظل ما نختلف عليه قائما، دون أن يؤثر على الحد الأدنى من استمرار العلاقات».
الذي دفع الأطراف المختلفة أن تجلس معا في قمة بغداد هو أن العالم بصيغته القديمة يتغير. المخاوف والمخاطر تزيد بوتيرة عالية خصوصا بعد انتشار كورونا، وبعد الأزمات المائية الطاحنة التي تضرب غالبية بلدان الإقليم، والأزمات الاقتصادية المختلفة، وانتشار الإرهاب وفشل العديد من حكومات المنطقة في تأمين الحد الأدنى من حاجات شعوبها سواء كانت أمنية أو اقتصادية.
ثم إن بعض الدول الإقليمية الكبرى، التي ظنت أنها قادرة على الهيمنة، أدركت في النهاية أن الثمن سيكون فادحا، لذلك قبلت ما كانت ترفضه في الماضي، ودول أخرى فوجئت بأن أميركا تستعد لحزم حقائبها والرحيل عن المنطقة، بعد أن ظن هؤلاء أن الوجود الأميركي «باق ويتمدد». والأخطر لهذه الدول أن أميركا قد تعقد صفقة قريبا مع إيران. ثم جاء التطور الدراماتيكي في أفغانستان، والذي نبه معظم بلدان المنطقة الى أن التطرف والإرهاب لا يزال مستمرا، وقد يعود قويا بعد انسحاب أميركا وصعود حركة طالبان.
ثم إن هناك متغيرا مهما هو احتدام الصراع بين أميركا والصين، وبالتالي فإن من مصلحة بلدان المنطقة البحث عن موطئ قدم في ظل هذا الصراع، سواء بتجنب ويلاته أو الاستفادة من تناقضاته.
كل هذه المخاوف والتناقضات والسيولة السياسية هي التي يمكنها أن تجعلنا نفهم لماذا جلس كل الفرقاء في بغداد، ولماذا شاهدنا صورا ومصافحات وتغريدات ولقاءات بين قادة ومسؤولين، لم نكن نظن أنها ستتم، لكنها تمت.
من المهم لنا كعرب أن تتحلى عقولنا بالمرونة، حتى نفهم جيدا ماذا يفعل العالم، وكيف يدير صراعاته وصولا إلى تحقيق مصالحنا، أو الحد الأقصى منها، بدلا من أن نكون الطرف المفعول به دائما!