الحمولة الزائدة على الفكر السياسي!
مقالات

الحمولة الزائدة على الفكر السياسي!

غالباً عندما لا تكون الأفكار ملموسة، وعندما لا نملك آليات واضحة ـ ما أمكن ـ، أو تصورات منطقية وعلمية عن كيفيات تجسدها في الواقع تتحول إلى أحمال زائدة على الفكر السياسي.
تزداد هذه المسألة تعقيداً عندما نعبر عن هذه الأفكار على هيئة مخاوف وهواجس، أو عندما «نجتهد» بشأنها ونحن لا نملك القدرة على توفير الدلائل، ولا الإثباتات التي ستؤدي إليها.
وحتى عندما يتعلق الأمر بكونها مجرد احتمال من بين مجموعة أخرى من الاحتمالات، التي يمكن أن تكون مغايرة للاحتمال مثار البحث، فإن كل احتمال باعتباره درجة من درجات تحقق الإمكانية يحتاج إلى درجة معينة من التصورات الواقعية الملموسة لتحقيقه.
ولا تتحول المسائل المجردة إلى تجسيدات ملموسة، كما لا تتحول التجسيدات الملموسة إلى تجريدات علمية من تلقاء نفسها، لأن هذا التحول محكوم بسياقات وترابطات منطقية.
أقصد لا تتم هذه التحولات بصورة تلقائية، ولا تتأتى أبداً إلا إذا تضافرت واكتملت ونضجت معطيات كثيرة من الصدف التي تتحول عند درجة معينة إلى ضرورة.
ليس القصد من هذه المقدمة الاستعراض لأي «عضلات» نظرية أو تنظيرية، بقدر ما أن القصد هو تبيان كيف أن عدم الطرح الملموس يؤدي فعلاً إلى الحمولة الزائدة على الفكر السياسي في الحالة الفلسطينية ـ كما في كل حالة أخرى ـ وليس في مجال الفكر السياسي فقط، وإنما في كل مجال من المجالات الأخرى.
المسألة تتعلق بالهواجس والمخاوف من أن «تنتهي» الحقوق الفلسطينية إلى احتياجات اقتصادية، وأن «تنتهي» العملية السياسية أو تتوقف عند التخوم الاقتصادية، وأن يتم عمليا وواقعيا استبدال الحل السياسي بالحل الاقتصادي في نهاية الأمر والمطاف.
وحتى يكون هذا التفكير مشروعاً ـ أقصد المخاوف والهواجس من الحل الاقتصادي ـ لا بد من توفر معطيات ووقائع سياسية وطبقية قابلة للتماهي أو القبول بهذا الحل والتوقف عند حدوده الخاصة.
ليس هذا فقط، وإنما لا بد من توفر معطيات في الواقع الجماهيري أو الشعبي بما يفضي إلى «التكيف» أو «التأقلم» مع هذا الحل والقبول به أو تقبله، ولو حتى لمرحلة معينة.
لو بدأنا من الجانب السياسي في قطاع غزة فإن المعطيات الملموسة والمؤشرات التي تتوفر لدينا تفيد بأن حركة حماس يمكن أن توافق على «هدنة» طويلة الأمد، قد تمتد إلى خمس أو عشر سنوات مقابل فك الحصار عن القطاع، ومقابل «استقرار» نظامها السياسي بالسيطرة على القطاع، لكنها ليست على استعداد «لإنهاء» الصراع عند هذه الحدود، وذلك لأنها تعرف حق المعرفة أن موقفا من هذا النوع، ووفق هذا المنظور سيؤدي إلى سقوط نظامها السياسي، أو إلى تصدعه بالكامل لأن إنهاء الصراع، ليس فقط نظرياً، وإنما عمليا أيضاً سيجردها من أي «شرعية»، وسيحولها إلى وكيل للاحتلال.
فهل تتوفر هذه الإمكانية لحركة «حماس» في الواقع، أم أن كل المؤشرات تدل على صعوبة بل واستحالة ذلك؟
وهل ستسمح الحالة السياسية الحزبية، والحالة الشعبية في القطاع «بتمرير» حل كهذا بالبساطة التي يتم الحديث عنها حول الحل الاقتصادي؟
ثم لو انتقلنا إلى الواقع السياسي والاجتماعي في الضفة، فإن كل المؤشرات والمعطيات تفيد بأن القيادة الشرعية الفلسطينية ليست على أي استعداد للتخلي عن الحقوق الوطنية السياسية للشعب الفلسطيني واستبدالها بالحلول الاقتصادية حتى ولو قبلت مؤقتاً بأي ترتيبات من هذا القبيل، وحتى لو أنها (أي القيادة) عملت على توفير الحد الأقصى من الاحتياجات الملحة لدعم بقاء السلطة التي تقيمها في الضفة.
أما الحالة الشعبية والجماهيرية في الضفة فهي قابلة للانفجار في وجه الاحتلال في أي لحظة، وليس هناك من مؤشر واحد يدل على قبول أو تقبل الحل الاقتصادي كبديل للحل السياسي، أو كبديل للحقوق الوطنية، لأن التخلي عن الحقوق سينهي دورها كليا حتى أن شرائح معينة من البرجوازية الفلسطينية، ومهما كانت علاقاتها تتقاطع مع الاحتلال إلا أنها تطمح إلى أن يكون لديها «السوق» التي تسيطر عليها، وتتحكم بها بعيداً قدر الإمكان عن سطوة اقتصاد الاحتلال.
الحل الاقتصادي لا يلبي مصالح الطبقات السياسية والاجتماعية الفلسطينية إلا جزئياً ومؤقتاً وانتقالياً.  
ولا يلبي مصالح «السلطات» السياسية التي تعكس مصالح هذه الطبقات إلا كمرحلة مؤقتة فقط.
أما إذا تحدثنا عن فلسطينيي الخارج فالمسألة هنا لا تحتاج إلى أي دليل أو إثبات، لأن مصالحهم أبعد وأعمق من الاستقلال السياسي نفسه، وليسوا بوارد لا قبول ولا تقبل الحل الاقتصادي كبديل عن حقهم في العودة، وحقوق شعبهم الوطنية غير القابلة للتصرف، أما حقوق الأهل في الداخل فهي خارج هذه المعادلة.
إذا كان المقصود بالمخاوف والهواجس حول الحل الاقتصادي البديل للحل السياسي، أو استبدال الحقوق الوطنية ببعض الاحتياجات المعيشية والاقتصادية هو الترتيبات المؤقتة أو المؤقتة والانتقالية، وليس القبول أو تقبل إنهاء الصراع مقابل هذه الترتيبات فإن هذه الهواجس وهذه المخاوف مشروعة وقائمة، ولكنها لا تشكل في مثل هذه الحالة خطراً على المشروع الوطني، ولا على الحقوق الوطنية.
من هنا وعلى أساس ذلك فليس للحل «الاقتصادي» تلك «الأهمية» التي يتم الحديث عنها.
الخطر لا يأتي من هنا أبداً.
الخطر الحقيقي هو ذلك الذي بات يعرف باستراتيجية تقليص الصراع وليس الحل الاقتصادي.
صحيح أن البعد الاقتصادي في استراتيجية تقليص الصراع هو بعد جوهري ومركزي ومحوري أيضاً، إلا أن هناك فروقات جوهرية بين الحالتين.
الحل الاقتصادي ليس حلاً سياسياً، ولا يمكن أن يكون ولا يقوى على أن يكون بأي حال من الأحوال.
أما استراتيجية تقليص الصراع فهي بمثابة «حل» يهدف إلى تمويه الحقوق الوطنية، والاستعاضة عنها باعتراف شكلي بها، بما في ذلك الحق بالدولة الفلسطينية، على أن تتم «بلورة» هذه الدولة من خلال «التفاوض» عليها، ليس من زاوية الحق النظري بها، وإنما من زاوية القيود التي يجب أن تتحقق على الأرض قبل قيامها.
الخطر في ما تسمى استراتيجية تقليص الصراع في كون هذه الاستراتيجية هي شكل مخادع من أشكال (حق تقرير المصير)، وخداع بصري ونفسي يؤدي في نهاية المطاف إلى قبول وتقبل فكرة الدولة المؤقتة والاستعاضة عن الدولة المستقلة بها. وهنا علينا أن ندقق في الموقف الأميركي الذي يدعو إلى حل متفاوض عليه.
الخطر في استراتيجية تقليص الصراع قائم «في حالة القبول بها» في إخضاع حق تقرير المصير للرغبة الأميركية، والرؤى العربية والإقليمية، وفي اندراجها التام في الاستراتيجية الصهيونية.
الحل الاقتصادي ليس سوى إحدى آليات استراتيجية تقليص الصراع، وهو ليس، ولا يمثل هدفا بحد ذاته، لأنه لا يمكن أن يكون هدفاً بحد ذاته.
على الفكر السياسي الفلسطيني أن يتنادى لمناقشات جادة حول المخاوف الحقيقية، وحول الهواجس الحقيقية المحدقة بالقضية الوطنية، وأن نبتعد عن التعميمات التي تلامس المسائل ولا تقوى على الدخول إلى جوهرها.
وحول هذا الخطر، خطر استراتيجية تقليص الصراع ستكون لنا عودة، بل وأكثر من عودة واحدة.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.