تقسيمات العالم، طولاً وعرضاً
مقالات

تقسيمات العالم، طولاً وعرضاً

في الخطاب السياسي والإعلامي تُستخدم عدة تقسيمات للعالم، وفقاً لمعايير مختلفة، وبحسب الجهة المخاطبة، والفئات المستهدفة؛ فمثلاً تم تقسيم العالم إلى «شرق»، و»غرب»؛ وهو تصنيف ثقافي، الشرق تمثله الدول العربية والإسلامية، بما يشمل مراكش الواقعة في أقصى المغرب العربي (وقد يشمل أحياناً الصين وجيرانها)، بينما الغرب تمثله أميركا، وأوروبا (الواقعة في الشمال)، وأستراليا الواقعة في أقصى جنوب شرقي الكرة الأرضية!
وكان الشاعر الإنجليزي «روديارد كبلنغ» في نهاية القرن التاسع عشر قد أطلق مقولة «الشرق شرق، والغرب غرب، ولن يلتقيا» وما زالت تلك المقولة قابلة للتصديق، وتجسد واقع العلاقات بين الشرق والغرب، واختلافاتها في العادات والتقاليد والموروثات الروحية والثقافية، وفي السياسة أيضاً. فقد كان الشرق القديم مختلفاً عن الغرب القديم ولا يزال الاختلاف قائماً، وربما تعمّق نتيجة الغزوات الاستعمارية.
نشأ عن هذا التقسيم مصطلح الشرق الأوسط، وهو تصنيف سياسي/ ديموغرافي، استعمل أول مرة العام 1902 من كاتب أميركي للإشارة للطرق المؤدية إلى الهند، في مواجهة النشاط الروسي في إيران، ثم صار للدلالة على المنطقة الواقعة بين الشرق الأدنى والشرق الأقصى، ثم استعمل من قبل الدول الاستعمارية الأوروبية أثناء الحرب العالمية الأولى عندما بدؤوا بوضع مخطط لتقاسم مناطق النفوذ في آسيا وإفريقيا.
وما زال المصطلح يثير جدلاً، فالقوميون العرب رفضوه لكونه بديلاً عن مصطلحهم المحبب «الوطن العربي»، وما زال الخطاب الأميركي والأوروبي يتجاهل مصطلح الوطن العربي، ويعتمد مصطلح الشرق الأوسط، لكن مثقفين وإعلاميين عرباً يستخدمونه باعتبار أنه يشمل دولاً غير عربية (تركيا، إيران، أفغانستان..). بينما يفضّل المثقفون الأمازيغ استخدام مصطلح «الشرق الأوسط وشمال إفريقيا» في الإشارة لنفس المنطقة، للتذكير بوجودهم الأصيل، والتأكيد على ثقافتهم الأمازيغية.
وهذا يذكرنا بالتقسيم القديم الذي استخدمه الرومان بعد سيطرتهم على جميع حوض البحر الأبيض المتوسط، فقسموا شعوب العالم إلى قسمين: شعوب متحضرة، واعتبروا أنفسهم مركز الحضارة، وشعوب بدائية، وسمّوا شعوب شمال أفريقيا بـ»البربر».
وهناك تقسيم «شمال»، و«جنوب»؛ وهو تصنيف اقتصادي، دول الشمال هي الغنية والسعيدة، بينما دول الجنوب هي الفقيرة والجائعة، ورافقت هذا التصنيف نظرية أن الشمال دائما متقدم وأكثر تحضرا من الجنوب (حتى داخل الدولة الواحدة)، مع أن شواهد كثيرة أظهرت خطأ هذه النظرية.
أما التقسيم الأكثر إثارة للجدل فهو «دول العالم الأول» و«دول العالم الثالث»، للإشارة إلى الفجوة الكبيرة بين تلك الدول حضاريا واقتصاديا وتقدما في شتى المجالات.. وفي الحقيقة عندما نُحت هذا المصطلح أول مرة سنة 1952 كان لتمييز العالم إلى كتلتين: العالم الأول ومركزه أميركا والدول الأوروبية المتحالفة معها، والعالم الثاني ومركزه الاتحاد السوفييتي والدول الحليفة له، فظهر أن هناك عشرات الدول التي خرجت من التصنيف، فسمّوها دول العالم الثالث، للإشارة للدول التي لا تتبع أيا من القوتين العظميين في حينها.. واستكمالا لهذا التصنيف ظهرت دول «عدم الانحياز»، ودول «الكتلة الشرقية»، بحماية حلف وارسو، ودول «الكتلة الغربية» بحماية حلف الناتو. وهو تصنيف سياسي عسكري.
في واقع الأمر تصنيفات شمال/جنوب، وعالم أول وعالم ثالث تحمل الكثير من الحقائق المفجعة؛ فدول الشمال، أو العالم الأول تنعم شعوبها في الخيرات، والأمن، والرخاء الاقتصادي، وتتسم مدنها بالتنظيم والتطور التقني والحضاري.. مقابل دول العالم الثالث (الجنوب)، حيث شعوبها غارقة في المشاكل والأزمات والحروب الأهلية والاضطرابات الأمنية، والفقر والعشوائيات.
ولكن مع التغييرات الهائلة التي حدثت في العالم مؤخراً، ظهر مصطلح الدول النامية (مقابل الدول الصناعية)، أي الدول التي لديها فرص وإمكانيات وخطط وجهود للتطور، ولم نعد نسمع مصطلح دول العالم الثاني (فقد انهار الاتحاد السوفيتي وتفككت الكتلة الشرقية)، أما دول العالم الثالث فلم تعد كلها متخلفة؛ فقد ظهرت الصين، وهي الآن تنافس على المركز الأول عالميا وفي كل شيء، كما ظهرت «النمور الآسيوية»، والهند، وكوريا، والبرازيل، والمكسيك، وتركيا.. وصارت تنافس الدول الصناعية، وتهدد مكانتها..
وهناك تقسيمات دينية أيديولوجية، أكثرها غرابة وعنصرية تقسيم الصهيونية، المستند إلى خرافة باعتبار اليهود شعب الله المختار، ثم بقية البشر، واسمتهم الجوييم أو الأغيار!
كما يقسم خطاب الإسلام السياسي المتشدد العالم إلى قسمين: فسطاط الحق، وفسطاط الباطل، أو دار الإسلام، ودار الحرب (غير المسلمين). ويعتبر هذا الخطاب أن المسلمين هم خير البشر، وهم أهل الجنة، وعليهم واجب هداية بقية البشر وضمهم إلى حظيرة الإسلام.
وفي الغرب (أميركا تحديداً) ظهر تقسيم أيديولوجي عبّر عنه «فوكوياما» في نظريته «نهاية التاريخ»، حيث قسّم العالم إلى دول «الرأسمالية الديمقراطية»، وبقية أجزاء العالم، التي تحكمها نظم غير ديمقراطية، معتبراً أن النظام «الرأسمالي الليبرالي» يشكّل المرحلة النهائية في التطور العقائدي للإنسانية، وبالتالي فهو نظام الحكم الأمثل.
أما «هنتنجتون» في كتابه صراع الحضارات فزعم أنَّ صراعات ما بعد الحرب الباردة لن تكون بين الدول القومية واختلافاتها السياسية والاقتصادية، بل ستكون الاختلافات الثقافية هي المحرك الرئيس للنزاعات بين البشر في المستقبل.
في عصر العولمة الذي نعيشه الآن، بدأت هذه التقسيمات تختفي، وتتماهى حدودها، وقد تختفي كليا في المستقبل، وينشأ بدلا منها تقسيمات جديدة.. بغض النظر عن دوافع وتداعيات هذه التقسيمات، وأن بعضها ينطوي على جوانب واقعية؛ إلا أن العالم في جوهره عصي على التقسيم، بمعنى أنها تقسيمات مصطنعة وافتراضية؛ فالإنسان هو الإنسان، بصرف النظر عن لونه ودينه وعرقه ومستواه الاقتصادي، وبنو البشر في كل بقاع الأرض متشابهون من حيث الجوهر والروح والسمات العامة، سواء كانوا في المكسيك، أو في نيوزيلندا، أو السويد، أو مصر، أو غينيا، أو كندا، أو فيتنام، أو الهند، أو اليمن.. وتاريخ الشعوب ليس كله تاريخ الحروب والصراعات، بل هو قبل ذلك تاريخ حركات الشعوب وتداخلها وتمازجها وتخطي الحدود السياسية في التبادلات الثقافية والتجارة وحُسن الجوار وتبادل المنافع والمصاهرة والهجرات الفردية والجماعية والتحديات الخارجية والمصير المشترك والنداءات الإنسانية والصلات الروحية.. والبشر قبل ذلك كله لهم أصل «جيني» واحد، وبعد ذلك كله سيواجههم مستقبل واحد.. وبين هذا وذاك تشاركوا في بناء ومراكمة الحضارة الإنسانية.. ومن العبث تجاوز كل هذا التشارك والتوحد، لأنه سيكون كمن يحرث في البحر..

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.