إلـى أحـمـد يـعـقـوب
مقالات

إلـى أحـمـد يـعـقـوب

أحمد
أنا لا أعرف كيف أرتب الحزن في حقيبة الزمن، لكني أعرف أن الحقيبة تصير اكثر ثقلاً كلما مر العمر وأصير أكثر وهناً، فالجسد اليافع بدأ الشيخ مثل قرّاضة يأكله لكن بصخب التعب. لا أعرف كيف أرثى من أحب. اعرف أن الكلمات في القاموس، لكن كلمات القلب لها جذور مختلفة. العمر لا يمر، فقط يمر من نحب وندرك وقتها أننا لم نعد على نفس المركب، كما كنا نظن الأشجار تتحرك ونحن نقطع الطريق. كل شيء يمر إلا نحن. من نحب نرى مرورهم ثقيلاً فهم يذهبون بلا استئذان. لا يقولون، إنهم سيعودون، فقط يديرون ظهورهم ويذهبون. وهكذا فعلت في تلك الظهيرة القائظة من شهر آب.
تذكر كيف التقينا أول مرة. كان الصيف أيضاً. وكان رمضان والأصيل بدأ يرمي أطراف ثوبه فوق النهار المثقل بالحرارة. كنا عطشى وكان التعب يلهث في رؤوسنا. كان هذا أول يوم لك في غزة التي ستعيش فيها بعد ذلك بعد طول منفى. ونحن من منفى لمنفى ومن صقيع لآخر. في البيت، كان نعيم قد خرج لتوه من السجن بعد سبع عجاف ونيف أمضاها بعد أن طوى الانتفاضة الأولى تحت جناحيه وسار في سراديب التحقيق. سهرتما ليالي طوال تتحدثان هو عن السجن وانت عن المنفى. كنت تستمع بشغف لقصص التحقيق وصمود الفتية وخيبة المحقق. كان ثمة بطولة دائمة الحضور في كل تلك الأحاديث والحكايات. كان الأبطال يقفزون من السرد بلا إرادة، فالأبطال الحقيقيون لا تستدعيهم الحكاية ولا ضرورات القص، فهم يمرون على الطريق مرور حفيف الأشجار بين نسيم المساء. بتما صديقين بين لحظة وأخرى. وأمضيتما وقتاً طويلاً في تلك الدهشة. وكنت تبرع في الحديث عن المنفى. الطريق ليست أجمل من البيت تماماً، على الأقل لم تكن من أصحاب تلك الفتنة الزائفة وكان الخطو نحو البيت كان مشقة لا تستحق. كنت تبرع في وصف المنفى، المنفى الذي لم تعرف غيره. الطفل الذي ولد في المخيم قرب دمشق وعاش حياته حتى فاز بخارطة أخرى للمنفى فحملته الأقدار إلى كوبا ومن ثم إلى العراق، الطفل لا يعرف شيئاً غير المنفى. كنت تسرد قصصا تبدو عجيبة وغير مألوفة لكثرة ألفتها، وكنت تستحضر أصدقاء مروا بحياتك ومررت بكروم عمرهم بدهشة وفتنة. وكنت تبرع في ذلك. كان عالم أميركا اللاتينية العجائبي قد صبغك ببعض ألوانه، وكنت مثل حكاء بارع تعرف كيف تبهر من يستمع إليك. تعرف كيف تسرد الحكاية وكيف تتوقف وكيف تواصل. وكنا في تلك الليالي الحارة ورطوبة البحر تخطف منا الراحة نبحث في ثنايا حكاياتك عما يشبهنا. وكنت القاسم المشترك الأبرز في تلك الدهشة التي تعتري وجوهنا. كانت تلك أياماً خلت وظلت عالقة في القلب.
وحملت نعيم أقداره إلى فردوس كان يبغيها مع اشتعال الانتفاضة الثانية. بكيت على الهاتف. كنت في فلورنسا وحيداً أحاول أن استوعب الحزن وكانت المسافات توجع أكثر. رثيت نعيم بحرقة الأخ وكتبت عن البطل الذي رأيت فيه مفهوم أبطال الحجارة. استحضرت حكايات السجن والمطاردة، وها أنا، الآن، استحضر رثاءك له وأبكي عليك مثلما بكيت عليه. الأيام تحملنا على أجنحة مختلفة ونحمل أنفسنا إلى مسافات متباعدة. لم يكن أحدنا يتخيل أنه سيرثي الآخر. وما كنت وانت تجلس مع نعيم في البيت الذي كان يعمره ليتزوج فيه تتخيل أنك سترثيه وستكتب عنه بالدمع. الحياة ليست قاسية لكننا نمر بالممرات السوداء فيها.
تذكر يوم صار لك رقم موبايل. صحت بفرح أنه بات لك، الآن، في الوطن شيء حتى لو كان رقم موبايل. كنت تحفظه عن ظهر قلب وتحب أن تعطيه لكل مار في الطريق بفخر الطفل الذي وجد ما يدلل على نضوجه. في الوطن ننضج بطريقة مختلفة كما تعرف. كل شيء له معنى مختلف في الوطن. ليس الوطن تماماً، على الأقل ما تيسر لنا منه. ثم شاءت الأقدار وبقيت في غزة وتزوجت. منذ اللحظة الأولى كنت فرداً من العائلة. كنا نرى فيك نقصنا وغيابنا فكل عائلة فيها غائب لا تعرف طريق عودته. كانت سيرتك قصة فلسطينية بامتياز، قصة الفقد والغربة القهرية والعودة غير المكتملة والعناق غير الناجز مثل الحلم الكبير الذي ننتظره.
تعرف نحن لا نعشق المخيم، لكننا نألف كل شيء فيه، فهو النقيض الكامل لكل ما نحلم به. لذا كنت تجد في جباليا صورة أخرى عن اليرموك، وكنت تحب التمشي في الأزقة والشوارع تلقي التحية على الناس الطيبين الذين يجلسون على الكراسي الخشبية أو البلاستيك على الطرقات. كان ثمة انتظار قاهر في كل تلك التفاصيل. الأشياء تذكر بأشباهها وأضادها أيضاً.
سأقول لك عن دهشتنا ونحن نستمع إليك تحدثنا عن أصدقائك في البلدان الكثيرة التي مررت بها. كنت تتحدث عنهم بشغف وحب. وكنا نحسدهم أن صديقاً لهم يتحدث عنهم هكذا بعد مرور الزمن. عرفنا الكثير من الكتاب والشعراء العراقيين من قصصك وعرفنا عنهم ما لا يعرفه أصدقاؤهم المقربون. كنت تحترف فن الدهشة. حين تلقي الشعر تلقيه كمن يكتشفه للتو. تعتريك دهشة من يعثر على الكلمات بين قدميه دون أن يقع. تتحدث عن الشعر والشعراء كشاعر يبحث عن سر الصنعة. تذكر قصيدة موزة وكيف كنت مثل الأطفال الذين تتحدث عنهم في القصيدة تكتشف سر وقوة الكلمة. في الشعر دهشة تمس القارئ وكنت تواصل بقلق البحث عن ذلك الشغف.
أحمد
الأحزان تأتي فجأة لا تطرق باباً ولا ترسل سطراً تبلغ بقدومها. نجدها أمامنا، نقفز في قعر بئرها دون أن نتأهب للسقطة المدوية.
كيف جرؤت على صفق الباب في وجهنا هكذا، كأنك تدخل حكاية جديدة أو تدخلنا في دهشة أخرى.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.