تفوق العقل والإرادة
مقالات

تفوق العقل والإرادة

جلبوع، أو الخزنة كما يجب أن يسميها أباطرة القمع الإسرائيلي، هي فخر الصناعة الغربية، المستندة إلى تاريخ طويل وتجربة عريقة في بناء السجون الأكثر تحصيناً. تتفوق الخزنة على كل السجون الإسرائيلية من حيث مخطط البناء، والمواد المستعملة، ومن حيث تعدد أجهزة الإنذار والحراسة. تحتاجها إسرائيل للاحتفاظ بمن تعتبرهم أخطر السجناء الذين ينبغي أن يخضعوا لإجراءات عقابية شديدة، وإلى حراسة على مدار الساعة.
لو أن أحداً سأل أصحاب العقول التي بنت الخزنة، عن مواطن الضعف التي يمكن اختراقها، لقالوا إنها منيعة وإلا لكانوا تجنبوا ترك اي ثغرة يمكن ان تنفذ منها الريح وليس النزلاء من الفلسطينيين، لأنهم مزورون ومزيفون فإن المحتلين لا يعرفون المثل الشعبي القائل "من مكان ما بتأمّن خاف". لقد آمن الإسرائيليون، وليس فقط إدارات السجون بأن أحداً لا يستطيع أن يفتح الخزنة، ينطوي ذلك على استخفاف بالعقل الفلسطيني الذي تفوق على القدرات الإسرائيلية الاستخبارية أكثر من مرة، ومن بين هؤلاء، شباب بعضهم لم يكملوا تعليمهم لكن شنوا هجمات إلكترونية على مواقع إسرائيلية ظنت إسرائيل أنها حصينة. الإخفاقات الاستخبارية الإسرائيلية تتواصل، وأصبحت محل تندر صحافيين إسرائيليين.
ستتواصل الروايات والتكهنات حول نجاح ستة أسرى فلسطينيين في حفر نفق الحرية، والاختفاء في أرض تنتشر فيها على نحو مكثف عيون عشرات آلاف الإسرائيليين، ولا تزال تقع تحت  سطوة جيش مدجج بكل أسباب القمع والقتل والتلصص على حياة الفلسطينيين. لكل روايته، وتحليلاته، بما في ذلك خبراء التحقيق الذين يستخدمون وسائل كثيرة للوقوف على حقيقة ما جرى، لكن أصحاب الرواية الأصليين لم يتحدثوا بعد. سيظل العقل الإسرائيلي مشغولاً إلى كثير من الوقت حول تفاصيل الرواية، ابتداءً من الزمن الذي استغرقته عملية الحفر، إلى كيفية العثور على نقطة الضعف في المكان المحصّن، إلى الأدوات المستعملة، وكيف تصرف الشباب بمخلفات عملية الحفر، ومتى وكيف تواصلوا مع الخارج، وما هي أشكال المساعدة التي تلقوها. الأسئلة كثيرة ولن ينجح العقل الإسرائيلي المتبجح في الوصول الى الحقائق طالما ان صاحب الرواية لم يتحدث بعد.
من هو العقل المفكر؟ أم انه نتاج عقول ستة أبطال عباقرة، نجحوا في أن يكونوا في زنزانة واحدة، وأن ينجزوا العمل بصبر لا ينضب إلى أن تحققت المعجزة؟ هي ليست المرة الأولى التي يحاول فيها أسرى محاولة حفر أنفاق للهروب من السجون بعضها نجح وبعضها فشل، لكن الإرادة كانت وهي دائماً موجودة. طويل تاريخ العلاقة بين الفلسطينيين والأنفاق، وهو ليس حكراً على من هم خارج السجن، وهو تاريخ غير منسوخ، وإنما شكل آخر من أشكال الإبداع الفلسطيني الذي نصح الصحافي الإسرائيلي جدعون ليفي، السياسيين الإسرائيليين بأخذه في الاعتبار وترك الفلسطينيين وشأنهم.
ليس واحداً أو اثنين أو ثلاثة، إنهم ستة أبطال، أنتجوا سيناريو "هوليوودي"، قد يعتبره البعض من الخيال العلمي الذي يميز الإنتاج السينمائي الأميركي.
كل إسرائيل من المستوى السياسي الى العسكري والأمني، والإعلامي منشغل في فك رموز الأحجية، التي تفوقت على عقولهم. إسرائيل في حالة جنون، فالضربة كانت غير متوقعة، وقاسية جداً لأنها مضطرة للاعتراف بتفوق العقل والإرادة الفلسطينية.
الجيش، الشرطة، "الشاباك"، حرس الحدود، الخيّالة، مقتفو الأثر، الكلاب البوليسية، طائرات الهليوكبتر، وطائرات بدون طيار وآلاف المستوطنين، كلهم في حالة استنفار للبحث عن آثار تدل على أبطال نفق الحرية. ثمة عملية تنكيل واتخاذ إجراءات عدوانية ضد القرى الفلسطينية بما في ذلك اقتحام المساجد، ولكن دون جدوى. ردود الفعل الإسرائيلية تجاه الأسرى، خصوصاً أسرى الجهاد الإسلامي الذي ينتمي إليه خمسة من أبطال نفق العبور، يتعرضون لعقوبات شديدة وعملية تنقلات واسعة، وضغوط شديدة، الأمر الذي قد يفاقم الأوضاع ويدفع الحركة الأسيرة نحو انتفاضة داخل السجون خاصة وأنهم يعيشون حالة من الانتعاش والتفاؤل، والفخر.
بعد فترة من توقف القصف الجوي الإسرائيلي لمواقع في قطاع غزة، عادت الطائرات لتشن هجمات استعراضية، الهدف منها التغطية على الفشل، ورفع معنويات الإسرائيليين.
إسرائيل تواصل ارتكاب حماقات قد تجر الأوضاع مرة أخرى الى مواجهات في الضفة وغزة، حتى لو فشلت في الوصول الى أبطال العبور. الشعب الفلسطيني كله في كل أماكن تواجده مشدود هو الآخر، ويدعو ليل نهار، بأن ينجح أبطال العبور في النجاة حتى يكتمل السيناريو، بفوز البطل كالعادة. في أسوأ الأحوال، فإن من صمموا هذا السيناريو يكونون قد قرروا عدم العودة إلى السجن، وانهم على الأرجح سيشتبكون مع قوات الاحتلال، الأمر الذي سيشكل مرة أخرى دافعاً للفلسطينيين للنهوض في مواجهات واسعة مع الاحتلال. هذا يعني أن كل محاولات تهدئة الأوضاع لن تنجح، وإن نجحت فلوقت قصير، لأن الاحتلال لن يكف عن ممارسة ما يتفق مع طبيعته العنصرية القمعية والإرهابية.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.