دروس من نموذج تحرر أسرى جلبوع
ما حصل في سجن جلبوع من تحرر ستة أسرى، رغم المنظومة الأمنية والتكنولوجية المتطورة المعتمدة فيه، لدرجة وصفه بأكثر سجن في العالم عصي على الاختراق وبـ”الخزنة الحديدية”، حدث استثنائي، بغض النظر عما ستنتهي إليه هذه العملية، فأن يستطيع أبطال الحرية بناء نفق استغرق حفره أشهر عدة، وربما سنة، مع أنهم مصنفون كخطرين جدًا أمنيًا، وسبق لبعضهم أن حاول نيل الحرية، وشهدت الغرفة نفسها محاولة تحرر سابقة، في ظل التفتيش اليومي المتكرر والرقابة الصارمة؛ فهذا أشبه بالمعجزة، ونوع من صناعة المستحيل.
فهذا يبرهن مجددًا على أن لا حدود لإمكانيات الإنسان الفلسطيني إذا توفرت له الإرادة والمعرفة وتحلى بالصبر، وهذا من شأنه أن يقدم نموذجًا يلهب شعلة المقاومة للمشروع الصهيوني الاستعماري التي لم تنطفئ يومًا منذ أكثر من مائة عام، وهي إن لم تستطع تحرير الأرض وتحقيق انتصارات حاسمة فإنها أبقت نصف الشعب على أرضه والقضية حية، وهذا حال دون استكمال المشروع الصهيوني لأهدافه، التي لا تكتمل إلا بطرد وتهجير المزيد من الفلسطينيين، لضمان استمرار إسرائيل كدولة بغالبية يهودية كبيرة. فالمقاومة ذات جدوى مستمرة، لذا فإن تجربة تحرر أسرى جلبوع في هذا السياق نموذج ملهم، وستبقى حية إلى الأبد.
لقد طرحت العملية قضية الأسرى بقوة، ووضعتها في صدارة الأحداث العالمية، وهذا سلط الضوء على معاناة آلاف الأسرى.
وتعد قضية الأسرى من أهم القضايا التي يواجهها الشعب الفلسطيني، وأكثرها حساسية، وتهم الفلسطينيين جميعًا، لذلك توحدت من أجلها كل الفصائل والأطراف كما شهدنا في هذه الأيام المجيدة، لذا من المفيد دائمًا إثارة القضية وإعلام العالم كله بعدد الأسرى وما يعانوه، والبطولات التي سطروها، وبأن حوالي مليون فلسطيني وقع في الأسر، وهذا يعني تقريبًا أن كل عائلة لديها أسير.
لا يمكن، وليس من المقبول، تحميل أبطال جلبوع أكثر مما يحتملون، وكأنهم كانوا حتمًا سيتمكنون من البقاء أحرارًا، وسينفذون عمليات مقاومة، وتصوير أن حريتهم بداية معركة التحرير أو شرارة الانتفاضة الشاملة، فلا بد من الاعتراف بالحقائق ومن دون عاطفة، إذ كان السيناريو الأول أن يتم اعتقالهم خلال ساعات أو أيام من تنفسهم هواء الحرية، لذلك فإن بقاءهم أحرارًا خمسة أيام (وبقاء اثنين حرّيْن حتى كتابة هذه السطور) هو معجزة أخرى، لا سيما أنهم كانوا من دون مساعدة خارجية، وفي ظل تعقبهم من آلاف الجنود ووحدات النخبة الخاصة في جيش الاحتلال.
هناك من طرح سؤال: لماذا حرر الأسرى أنفسهم إذا لم تكن لديهم خطة ولا من يساعدهم على التنقل والاختباء؟ وهذا السؤال يذكرنا بالمؤمن الذي يريد أن يضمن الجنة قبل أن يصلي، فما حدث عظيم واحتمال اعتقالهم مرجح، ولكنه ليس الاحتمال الوحيد تمًاما، كما أن نجاحهم في التحرر من السجن لم يكن هو السيناريو المرجح. ففي أي لحظة كان يمكن إحباط العملية، كذلك هناك فرصة، ولو ضئيلة، بأن يبقوا خارج المعتقل، فضلًا عن أن هذا الأمر يستحق المحاولة فهو يدل على الأمل والتحلي بالإرادة ، ومثلما قيل بأنهم، وخصوصًا محمود العارضة، بدأ فور اعتقاله بالتفكير بعملية التحرر الرابعة.
من الظواهر اللافتة التي يجب الاهتمام بها محاولات الاحتلال تشويه صورة محرري جلبوع، وضرب الروح المعنوية العالية للشعب الفلسطيني وتوحده حول الأسرى، من خلال نشر الأخبار الكاذبة، أو تضخيم بعضها، لإحداث شرخ بين الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر، وبينهم وبين المقاومة. ومن الأساليب التي اتبعت إشاعة أن فلسطينيي الداخل لم يقدموا المساعدة للأسرى، فأولًا الشعب الفلسطيني بشر وليس من ملائكة، وأفراده ليسوا كلهم أبطال، ولكنه في أغلبيته متمسك بقضيته وحقوقه، ويقدر المقاومة والمقاومين كما بينت التجربة التاريخية، ومنه من يخاف ويخشى من عواقب العقاب في حالة تقديم المساعدة للمقاومين، ومنه في كل أماكن تواجده من لا يؤمن بجدوى المقاومة المسلحة، ومنه عملاء.
إن أعمال البطولة والمقاومة المستمرة تدل على عظمة الشعب، وهي علامات على الطريق نحو المستقبل الواعد، وخطوات تتراكم وستتراكم إلى أن تحدث اللحظة التي يمكن أن يتحقق فيها الانتصار العظيم، وهذه اللحظة علينا أن ندرك أنها ليست قريبة، بل لا تزال بعيدة بحكم المعطيات المتوفرة وموازين القوى، والحاجة إلى تغيير ونهوض فلسطيني وعربي وعالمي، ويجب أن نعرف ونتصرف ونستعد على هذا الأساس، فالوضع الفلسطيني سيئ، وربما في أسوأ أحواله.
ولا يمكن تغيير ذلك بتصور واهم أن “وعد الآخرة “على الأبواب، ما سيؤدي إلى التهور أو التواكل، ولا بإعادة إنتاج الأوهام، من خلال الرهان على إحياء المفاوضات لتحقيق الدولة اعتمادًا على إدارة جو بايدن، رغم أنها لم تعد أحدًا بأي شيء سوى ببقاء السلطة (التي باتت عبئًا بصورتها الحالية)، وبخطوات بناء الثقة التي تحول القضية إلى إنسانية، إلى أن تستطيع أن تجعل القضية الفلسطينية من أولوياتها.
على الجميع أن يتذكر أن تداعيات استمرار الانقسام وتعمقه وكون حالة التوهان والانتظار هي المسيطرة، والسلطة لا تزال ترزح تحت قيود اتفاق أوسلو، بما فيها التنسيق الأمني، المستمر في هذه الأيام أيضًا، مع أنه من حسن حظ السلطة أن المحررين اعتُقِلوا في الداخل، ودخلت السلطة مرحلة أخطر عنوانها خطوات بناء الثقة، وهو الاسم الحركي للسلام الاقتصادي.
أما واقع الفصائل الفلسطينية فسيئ، فهي إما تقادمت وترهلت وفقدت شعبيتها وفاعليتها، وتعاني من عدم التجديد والإصلاح والتغيير، أو تراهن إضافة إلى ما سبق على المفاوضات رغم حصادها المر، وأن زمن المفاوضات لم يحن بعد، ولا تستخدم المقاومة الشعبية إلا بشكل تكتيكي للضغط من أجل استئناف المفاوضات، وإما وقعت في حفرة الجمع ما بين السلطة والمقاومة المسلحة، ما وضعها في دوامة لا نعرف في أحيان عديدة ما الأصل وما الفرع؟ المقاومة أم السلطة، والأهم أن كل هذا يحدث مع عدم بلورة مشروع وطني واضح: ما الأهداف القريبة والبعيدة، وكيف ومتى يمكن تحقيقها، ولماذا السلطة؟ ولماذا المقاومة؟ وكيف يمكن أن تكونا أداتين ووسيلتين لتحقيق الأهداف والحقوق الوطنية وليستا غاياتين بحد ذاتهما.
ويضاف إلى ذلك تعرض فصائل المقاومة في الضفة المحتلة إلى ضربات وحملات احتلالية مستمرة، بهدف ضرب بنيتها التحتية والتنظيمية، ومنع إعادة بنائها، وهذا ينطبق بشكل خاص على حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية.
كل ما سبق وأسباب عديدة، أهمها وجود فجوة كبيرة ومتزايدة بين القيادة والشعب، وفراغ قيادي وفصائلي وبرامجي؛ هو وحده يفسر لماذا لم يجد محررو جلبوع المساعدة في الخارج، ولا يسد هذا الفراغ الحراكات والمبادرات الشبابية وغيرها على أهميتها، كونها لم تتبلور بعد، وهنا لا يكفي القول إرادتنا قيادتنا، وأن كل فرد قائد، أو لا حاجة إلى القيادة أصلًا بزعم أن الفوضى طريق الخلاص وأن الشعب جاهز والظروف ناضجة. فلسطين ليست أفغانستان، وهناك شروط للانتصار لا بد من توفرها.
يجب ألا تقلل الخيبة المفهومة من الفصائل والقيادات عمومًا، والقيادة المتنفذة بصورة خاصة، من أهمية الوعي والقيادة لأي عمل، وخصوصًا للمقاومة والثورات والانتفاضات. فيجب أخذ الدروس والعبر من التجارب السابقة ومن أخطاء القيادات، ولماذا أوصلتنا إلى ما نحن فيه رغم مبادراتها وتضحياتها وإنجازاتها العظيمة، وخصوصًا في البدايات. ولكن هذا لا يقلل من حاجتنا إلى قيادات وقيادة من نوع جديد بأساليب وسياسات جديدة تتناسب مع الخبرات المستفادة، أو التي يجب أن تكون مستفادة بعد أكثر من مائة عام من المقاومة، ومن الحقائق والاختراعات والإبداعات الجديدة، فلم تعد الكتابة على الجدران هي وسيلة النضال المناسبة، ولا الجريدة منفاخ حدادة هائل … إلخ.
لا يمكن السير إلى الأمام من دون قيادة جماعية ووعي وتنظيم وتخطيط وتوزيع عمل، وقبله من دون تحديد أهداف قريبة قابلة للتحقيق وتفتح الطريق لتحقيق أهداف تبدو بعيدة عن التحقيق حاليًا على طريق إنجاز أهداف أكبر، وضمن مشروع وطني يعرف الجميع أين سيوصلنا. فنحن لا نناضل لإبقاء جذوة المقاومة مشتعلة فقط، ولا من أجل المقاومة، فالأمل بالنصر وإمكانية تحقيقه وليس اليأس هو محرك الانتفاضات والثورات.
قد تنطلق انتفاضة بشكل عفوي، ولكنها لا يمكن أن تستمر من دون قيادة وأهداف وإمكانيات وتنظيم وجبهة عريضة، سوى أيام أو أسابيع، وستكون مجرد صفحة مجد جديدة في التاريخ الفلسطيني، والشعب يريد ويستحق انتفاضة قادرة على الانتصار، فالانتفاضة حتى تستحق هذا الاسم يجب أن تكون شاملة ومنتشرة، وتضم كل أصحاب المصلحة والمناضلين من أجل شعبهم وقضيته العادلة، أي معظم الشعب إن لم يكن كله، والفوضى لا يمكن أن تقود إلى النصر، بل إلى أوسلو جديد أسوأ من سابقه.
إن الانتفاضة الشاملة في ظل الانقسام والتوهان وعدم ظهور قوى وحراكات جديدة قوية، ومن دون قيادة واحدة، على الأرجح لن تندلع، وإذا اندلعت ستكون عفوية ومؤقتة، ولن تذهب بعيدًا، ولن تتمكن من تحقيق أهداف جوهرية، بل قد تستخدم لتبرير ما هو أسوأ.
قد يكون من أهم دروس الانتفاضات السابقة خطأ التسرع لقطف ثمارها قبل النضوج، وكذلك عدم العمل من أجل إنضاجها لقطف الثمار، وعدم معرفة متى وكيف إذا اندلعت الانتفاضة يمكن ويجب إيقافها، فليس من الضرورة أن تستمر سنوات، وتتحول إلى الفوضى والفلتان الأمني الذي يساعد على إجهاضها وعدم تحقيق أهدافها، أو تحقيقها بشكل مجزوء ومشوه.
قد يكون آن الأوان لاندلاع انتفاضة بهدف واضح ومخطط له، ويفضل أن يكون قابلًا للتحقيق، لا أن تستمر سنوات، وتنتهي من تلقاء نفسها، حيث الانتفاضات القادمة عليها أن تركز على تحقيق إنجازات صغيرة تراكم عليها، كما عليها أن تركز مرة على الاستعمار الاستيطاني، ومرة حول الأسرى، وثالثة حول القدس والمقدسات، ورابعة حول الحصار، وخامسة حول التمييز والفصل العنصري والتهجير وهدم المنازل، وسادسة حول قضية اللاجئين وحق العودة، وهكذا يمكن تحقيق انتصارات ملموسة على طريق الانتصار الكبير.
وهذا كله من المفترض أن يبدأ بتعريف وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني، ونبذ دعاة الهزيمة والمنهزمين واليائسين الذين يصورون تفوق الاحتلال وكأنه أبدي وكل نضال يائس والوحدة عدمية، بحيث لا يبقى سوى الدخول في إدارة الصراع مع دعوة لتحسين إدارته. فمحررو جلبوع أثبتوا مجددًا أن كلمة مستحيل لا توجد إلا في قاموس الجبناء.