أما آن لغزة أن تجبي ثمناً
غزة في تاريخنا وحياتنا أكبر بكثير من مساحتها الجغرافية وعدد سكانها.
وإذا كان لابد من التذكير بأهم خصائصها، فهي حملت عبء ”الفلسطينية” على اكتافها في زمن كانت فيه موجات الغائها جارية على قدم وساق.
وهي كذلك حملت أعباء افشال مشاريع التوطين، التي لو تمت لكانت المسمار الأخير في نعش قضية وشعب، وهي من احتضن وحدة وطنية شعبية اندمج فيها الخليلي مع الغزي مع الكرمي مع المقدسي مع المهجّر من بلده أي مسقط رأسه.
لم تكن مجرد منطقة حرة في زمن ما للتجارة والتسوق، بل كانت هي الأكثر اتساعا للمناضلين الوطنيين الذين قذفت بهم موجات التهجير القسري فوجدوا فيها وبين أهلها ملاذا كما لو انهم ولدوا فيها، فنشأت في غزة ظاهرة امتزاج الدم الذي انجب حالة اقوى من كل الاجتهادات السياسية والفكرية واعمق، غير أن غزة دفعت اثمانا باهظة لدورها ورسالتها، وليس ما تدفعه الان وهو الاقسى الا حلقة من سلسلة لم تنقطع.
لقد كسر ظهر غزة مثلما كسر ظهر فلسطين كلها حدث غريب عنها وعن تاريخها وتقاليدها وانتمائها، انه الانقسام الذي مهما حاول فقهاء الاجندات والحكم تبريره والقاء اللوم على طرف منه دون الاخر، الا ان المشترك فيه انه قصم الظهر وشوه التاريخ وابعد الحلم عن ان يتحقق.
غزة الان هي المسافة الضيقة الفاصلة بين حرب والتي تليها، وبين ركام والذي يليه، وبين حقيبة المائة دولار والتي قد تلي ولا تلي، وبين اختلاس ساعة كهرباء من براثن انقطاع أطول، وبين جرعة ماء صاف تستخلص من رمل وملح.
أما أجيال غزة فكلهم لا يرون باقي الوطن الا على خرائط الكتب المدرسية، ومنهم من لا يعرف حدودا لبلده سوى البحر المكتظ بالبوارج ، والبر الذي يضيق ولا يتسع، والسماء التي هي في كل مكان آخر زرقاء صافية الا في غزة، فإما طائرات تحلق لتختار ما تدمر وأخرى تتناوب على السماء كتناوب الدوريات الراجلة على الأرض.
وأهل غزة الذين يعيشون داخل اضيق مكان على سطح الكوكب، يتعذبون بصمت ويجترحون أسبابا لمواصلة الحياة بكرامة وكبرياء، ويعتنقون ثابتا كالعبادة… لا راية بيضاء.
يجري حديث الآن عن استبدال الحصار الخانق والحروب التدميرية بتوفير اسباب حياة تخلو من الموت، وربما تقترب من ابسط حياة عادية يعيشها الاخرون في أي مكان.
معادلة الاحتلال ذات شقين…. هدوء طويل الأمد تقابله حياة قريبة من العادية، اما المعادلة الفلسطينية فهي ذات شقين أيضا… الحياة الكريمة حق الهي وانساني وتحرير الوطن واستقلاله حق غير قابل للتقادم والمقايضة، فإن اتى الوسطاء بما يضمن الحق الأول فأهلا وسهلا، وعليهم وعلى الفلسطينيين تخصيصا ان يضمنوا بأنفسهم ولأنفسهم الحق الأهم بالحرية والاستقلال.
لم تقصر غزة في الصمود، ولم تستسلم للألم المبرح الذي تعيشه وجعا يوميا لا مثيل له في أي مكان آخر، وفقد فلذات اكباد حلموا وحلم أهلهم بحياة هادئة على ارض وطن هادئ، ونوم في العراء بين البرد الصحراوي القارس والحر الساحلي المهلك.
إن غزة بكل ما فيها من بشر وحجر وشواهد تاريخ ووقائع كرامة وكبرياء هي فارس لن يترجل عن صهوة مجده، بل آن لغزة ان تجبي ثمنا لعذابها وعطائها، حياة كريمة لانسانها وتحررا واستقلالا لوطنها.
إن معادلة الاحتلال التي اغدق السيد لبيد في السخاء اللفظي لتمريرها قد تنفع سطحيا ولبعض الوقت، اما المعادلة الفلسطينية فهي الابقى ولكل الوقت.
نعم لرفع الحصار وتيسير سبل الحياة وهذا ما نسعى اليه جميعا وما تستحقه غزة، ونعم اكبر للحرية والاستقلال التي بدونها لن يتغير شيء.
غزة.. تجسيدا لفلسطين كلها، بحاجة لان تضع عربتها خلف حصانها وليس كما تسعى إسرائيل بوضع عربتها امام الحصان، هذا اذا كان ما يطرحه لبيد الان وما طرحه كاتس بالأمس هو الحل.