لماذا تنهال علينا المشاريع والتسهيلات والوعود؟
مقالات

لماذا تنهال علينا المشاريع والتسهيلات والوعود؟

آخر ما حرر بهذا الشأن هو ما طرحه لابيد في هرتسيليا حول غزة، وكان قد سبقه غانتس في رام الله.
تسهيلات ومشاريع ووعود وإغراءات تقابلها تحذيرات وتهديدات، مبطنة ومباشرة.
ما هو "السر" في هذا "الهجوم" الإسرائيلي نحو المشاريع والتسهيلات؟ للإجابة عن هذا السؤال يتطلب الأمر التمعن في الوقائع التالية:
أولاً، إذا انطلقنا من الاعتبارات العملية، والسياسات البراغماتية التي يراها الائتلاف الحاكم ضرورية للبقاء في سدة الحكم، فإن هذه التسهيلات والمشاريع، وحتى الوعود بتطورات "لاحقة" سيتم من خلالها "الانتقال" إلى مسألة حل الدولتين هي بمثابة البحث عن "صيد" ثمين يحقق لإسرائيل مكاسب استراتيجية اكثر بكثير من المغامرة بحروب جديدة، أو اشتعال هبات شعبية عارمة قد تؤدي إلى انفجارات كبيرة ليس فقط على الصعيد الفلسطيني الإسرائيلي، وإنما قد يمتد الأمر إلى المنطقة، وقد يتطور إلى أبعاد دولية تعرف إسرائيل جيداً أن نتيجتها لن تكون، ولن تصبّ في المصلحة الإسرائيلية، إذا لم نقل إن العكس هو الصحيح والأرجح.
لكن الأمر هنا هو أن (استراتيجية التسهيلات والمشاريع والوعود)، والتي هي "الخلطة السحرية" لاستراتيجية تقليص الصراع المدمجة بالأبعاد الاقتصادية المباشرة هي "خلطة سحرية" للإبقاء على هذا الائتلاف والمحافظة عليه لأطول فترة ممكنة.
ثانياً، إذا انتقلنا إلى المدى المتوسط، فإن هذا الائتلاف يحتاج إلى أن تكون سياساته البراغماتية والمباشرة مرتبطة، بهذا القدر أو ذاك، وإلى هذه الدرجة أو تلك مع استهدافات من شأنها "تأمين" وتغطية هذه الأبعاد المباشرة بأبعاد تتعلق بمصلحة الدولة الإسرائيلية، وكذلك بكامل المشروع الاستعماري الصهيوني في فلسطين.
وهنا بالذات، فإن الحكومة الإسرائيلية تحتاج ـ كما ترى ـ إلى التمايز عن النهج الذي كان يعتمده "الليكود" تحت قيادة نتنياهو، والذي كان يبحث عن المكاسب الانتخابية قبل البحث عن المكاسب الإسرائيلية، وكان يُخضع كل سياساته وتكتيكاته لهذا الاعتبار الحصري والوحيد.
من هذه الزاوية، فإن الحكومة الإسرائيلية الحالية تريد أن "تثبت" اختلافها وخلافها عن نهج نتنياهو، وترغب بالتأكيد عليه.
ثالثاً، إذا انتقلنا، الآن، إلى البعد الاستراتيجي الأهم، فإن هذه الحكومة، من زاوية تركيبتها السياسية والحزبية تدرك بعمق أن بقاء الأحوال على ما هي عليه، والاكتفاء بإدارة شكلية للصراع كما كان يفعل نتنياهو لم يعد ممكناً، ولم يعد "عملياً" في ظل وجود الإدارة الأميركية الجديدة.
فعندما كان نتنياهو يدير ظهره للعالم والإقليم كان يعتقد بأنه يستطيع أن يفعل ذلك في ظل وجود ترامب في سدة الحكم في الولايات المتحدة، وكان "واثقاً" من أنه مدعوم بالكامل من إدارة ترامب، ولن تتخذ الإدارة اليمينية المتصهينة أي مواقف تتعارض مع نهجه وسياساته.
أما، الآن، فقد تغيرت قواعد اللعبة.
الحكومة الإسرائيلية الحالية ليس بوسعها أن تذهب أبعد من الإدارة الأميركية، وهي تسعى لإعادة التفاهم مع الاتحاد الأوروبي، وهي تحتاج إلى ترميم العلاقة مع مصر والأردن والسلطة الوطنية، وهي ترى في كل ذلك مسائل حيوية لمواجهة ما هو أخطر، وما هو غير مسبوق في درجة هذا الخطر، وهو وصم الدولة الإسرائيلية بالدولة العنصرية أو وصف النظام السياسي فيها بنظام "الأبرتهايد".
ليس بمقدور إسرائيل أن تكف بسهولة عن كونها دولة عنصرية، وليس بالإمكان "التراجع" عن هذا النهج المدمّر لإسرائيل بإدراك تام من قادة الائتلاف الحاكم في المرحلة الحالية، وربما ليس بالإمكان أن يتم مثل هذا التراجع قبل أن تحدث على مدى زمني طويل قادم تحولات سياسية حزبية، وتطورت كبيرة أمنية وعسكرية، وقبل أن تتعمق أزمات ومشكلات كبيرة اقتصادية واجتماعية.
من هنا بالذات، وفي ضوء كل ذلك فإن الحكومة الإسرائيلية، وخصوصاً في منطقة الوسط واليسار، تسارع الخطى نحو استراتيجيات، التي أراها "كحائط صد" ضروري قبل تغير قواعد اللعبة كلها، وقبل فوات الأوان!
لاحظوا أرجوكم كيف أن ليبرمان وشاكيد ونفتالي بينيت يعربون عن بعض "تحفظاتهم" على هذا النهج باتجاه واحد ووحيد وهو الموقف من القيادة الفلسطينية الشرعية، وليس من المشروع نفسه، ويكادون يحصرون الأمر أحياناً بشخص الرئيس أبو مازن، في حين أن الوسط واليسار، لابيد وغانتس على وجه التحديد أصبحوا يتحدثون بصورة أوضح فأوضح عن خطط هذه الحكومة.
فبعد المواقف التي عبر عنها لابيد في هرتسيليا، والتي أفاض من خلالها واستفاض حول مشاريع اقتصادية كبيرة لإعادة الإعمار وإعادة تأهيل البنية التحتية، والجزيرة العائمة، وربما الموافقة على مطار في المستقبل، إضافة إلى الحديث الصريح عن ربط الضفة بالقطاع و"اشتراط" أن تتولى السلطة الفلسطينية الإشراف على كل هذه المشروعات، فإن خطط هذه الحكومة تصبح واضحة ومكشوفة.
وهكذا فإن اليمين في هذه الحكومة موافق على الاتجاه الرئيس في هذه الاستراتيجيات كلها، و"اليسار" موافق عليها كذلك، في حين أن الوسط هو الذي يقودها ويتبناها ويدافع عنها.
الوسط في إسرائيل يريد أن تكون هذه المشاريع "مصحوبة" بمسحة سياسية على شكل وعود مستقبلية ليست بعيدة، وكجزء من الفهم الإسرائيلي "لحل" الدولتين، في حين يرى اليمين المتطرف في هذه الحكومة أن "المسحة" السياسية ليست ضرورية على الأقل في هذه المرحلة، ولديه تحفظات كثيرة على إعادة ربط الضفة بالقطاع، ولديه تحفظات مباشرة على دور السلطة الوطنية وقيادتها على وجه التحديد والخصوص.
أما "اليسار" فإنه يوافق بشدة على كافة هذه المشروعات، إلا انه يعمل على أهمية "وضوح" البعد السياسي، وعلى أهمية أن يكون "الانفصال" بين الشعبين انفصالاً حقيقياً يتيح للفلسطينيين العيش في "دولة" قابلة للحياة.
المصلحة المشتركة بين هذه المكونات الثلاثة للحكومة الإسرائيلية تقتضي الحذر في الإفصاح عن رأي كل مكون من هذه المكونات، والخوف من انفراط عقد هذه الحكومة هو خوف حقيقي، والمغامرة بالذهاب يميناً أو يساراً محفوف بالمخاطر داخليا وإقليميا ودوليا أيضاً، ولهذا فإن الحذر هو سيد الموقف، والإفصاح عن حقيقة الأهداف والنوايا فيسير بكل التأني والتروي المطلوبين للبقاء دائماً في منطقة الوسط..!
عاد غانتس ظهر الأمس، ليؤكد على هذه الاستراتيجيات بالحديث عن الاستعداد للمزيد والمزيد من "التسهيلات" والمشاريع ليعيد لفت الانتباه على ما كان قد أورده لابيد في هرتسيليا.
تراهن الحكومة الإسرائيلية على "تفهم" الإدارة الأميركية للخطط الإسرائيلية، ولبعض "الغموض" السياسي فيها، وتراهن على "تفهم" بعض دول الإقليم العربي لها، وستعمل على "إلحاق" كل من تركيا وقطر بهذا المسار، وهي واثقة من دعم الخليج على الرغم من بعض التحفظات الشكلية، وهي تراهن أولاً وقبل أي شيء على دعم سياسي داخلي يحاصر المعارضة، خصوصاً إذا تحقق الهدوء في غزة، وتمت صفقة التبادل بهدوء أيضاً، وإذا ما فتح مسار سياسي من شأنه إعادة مخادعة الفلسطينيين. وما يمكن استنتاجه ومنذ الآن، من كل هذا المسار، أو "الهجوم" الإسرائيلي علينا فموجزه التالي:
• "إدارة الصراع"، أو إدارة هذا الصراع بالطريقة السابقة، والتي سادت حتى اليوم، لم تعد ضرورية، ولا ممكنة ولا عملية.
• العمل الإسرائيلي على فصل الضفة عن غزة وإقامة "دويلة" فيها لم يعودا في سلم الأولويات الإسرائيلية، أو لنقل إنهما لم يعودا من "المسلّمات" المقدسة في إسرائيل، بحيث يمكن المناورة بين "ترابط" شكلي وانفصال "واقعي".
• الإبقاء على سياسة الحصار والخنق الاقتصادي لن يؤدي إلا لمزيد من تدهور الأوضاع، وهو أمر لم يعد هدفاً ولا مرغوباً، ولا مستساغاً من أحد إلا من بعض الأوساط الفاشية في إسرائيل. ولهذا كله تنهال علينا المشاريع والتسهيلات والعروض والوعود في آنٍ معاً.

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.