أدهـشـونـا هـؤلاء الأبـنـاء...!
مقالات

أدهـشـونـا هـؤلاء الأبـنـاء...!

كم من الأحلام والدموع تعانقت أو تطايرت أو تساقطت لأسبوعين منذ أن تمكّن الأبطال الستة من التحليق في سمائنا العطشى للمطر، حلّقوا من فوهة نفق في مخيلاتنا التي توقف فيها كل شيء وتفرغت لتتابع وقع أقدامهم وأنفاسهم، وتقيس المسافات بين قرى ومدن الوطن، وتحسب وتخمن كم قطعوا منها، وأين وصلوا، قبل أن تعيد إسرائيل أربعة منهم للسجن الكئيب.
عادة ما تنتهي البطولات بنهاية تراجيدية، وهكذا كان، وبعدها نتابع بنهم تفاصيل ملابسهم، وماذا أكلوا وكيف مشوا، ندقق في ملامحهم وأسمائهم، وأمهاتهم اللواتي ينتظرن عناقاً كاد أن يكتمل مع حصة العسل، وقرى فلسطين وحبات برتقالها وصبارها وسمائها، كانت اللهفة تتنامى مع كل حكاية حملها المحامون الذين تحولوا إلى نجوم كأنهم يخرجون كشهود من بين سطور الحكاية تتناقلهم وسائط السوشيال ميديا، وكل كلمة يقولونها.
لدى الشعوب البسيطة عادة ما يتابع الناس أخبار المسؤولين وعائلاتهم كنوع من المعرفة، ويتفاخرون في جلسات سمرهم باستعراض ما يعرفونه عن حياة قائد أو زعيم أو مسئول عسكري، هذه المرة تراجع الجميع أمام سير لأبطال حقيقيين يكتبونها على ألواح الصبار وأوراق الشجر وصخور الجبال التي عبروها، والقرى التي تنفسوا هواءها ورأوا السماء، ولم ننتبه نحن المترفين بصفاء زرقتها إلى هذا الحد إلا بعد أن نبهونا.
كانوا أبطالاً تتوزع صورهم في المحاكم، لم يسمحوا للسجان أن يغطي لحظة كبرياء كان شعبهم ينتظرها حين اختلط الفرح بالحزن عندما تمّت إعادة اعتقالهم، كيف تمكنوا من هز الجيش «الذي لا يهزم» بملعقة أو بيد مقلاة، وحبسوا أنفاسنا ونحن نتابعهم في الخيال والواقع والحلم المكلل بالأمنيات. لماذا كان الأمر كأنها أول عملية هروب من السجن رغم أنها ليست الأولى؟
عندما يصاب الواقع بالوهن والانكسار تبحث الناس عن الأساطير وتتداولها بشغف بتفاصيلها ومركباتها، وتصبح الأسطورة بديلاً للواقع يتمسك بها الناس بأسنانهم للحفاظ على توازنهم من الكسر، جاء خروج الأبطال الستة كأسطورة كأنها كانت تعيد ترميم اللحظة المارقة والمكللة بالتراجيديا التي غطّت مساحة أكبر من ستة عقود، كانت وكأنها أكثر من سبعة قرون لشعب كأنه يقف وحيداً أمام الرياح على قرن ثور ولم يسقط.
هنا اللحظة ورمزيتها التي كانت تعيد للسردية الفلسطينية مكانتها وسط محاولات الإزاحة وصناعة مناخات التضليل، مرة بمحاولة تحويل الفلسطيني إلى عبء على المنطقة، ومرة بالسلام الاقتصادي وكأنه لا حقوق وطنية، ومرة بالتسهيلات. ووسط هذا المناخ تخرج الأسطورة من باطن الأرض شاهرة غضب الضحية وصخبها، بأن هناك حلماً لم يكتمل بعد، وأن الطريق لا يزال طويلاً، وأن الرجال لم يتعبهم المسير، وأن حفر الصخر بالأظافر لم يعد صيغة مبالغة، بل إعادة صياغة لراهن يتجسد أمام عدسات الكاميرا.
كتب أحدهم «ما بدي شيء من الدنيا، بدي محمود العارضة يشوف أمه ويعطيها برطمان العسل»، وآخرون تغزلوا بزكريا ووسامته وتفاصيل التفاصيل التي عجّت بها وسائل التواصل الاجتماعي. تلك العواطف التي اندلقت في العالم الأزرق والعالم الحقيقي كانت مدعاة للإعجاب بما قالوه الأربعة، وما قيل عنهم، في حين اختفى أيهم كممجي ومناضل نفيعات كأن الشعب يخفيهم في القلوب وبعيداً عن العيون.
الأسرى هم الأكثر جرأة وشجاعة واستعداداً للتضحية والأكثر صلابة، وإلا لما تقدموا الصفوف حاملين أرواحهم وسنوات عمرهم على أكفهم، وهنا كانت اللحظة تعيد التذكير بآلاف الأبطال في السجون الإسرائيلية وحياتهم ويومياتهم ومعاناتهم، وحجم أحلامهم وشهوة الهواء في السجون الإسرائيلية وشهقة السماء، وسؤال الحرية الدائم، لكنه سؤال الفعل الذي يحاكم شعباً كاملاً على دوره في إسناد الأسرى بما هو أبعد من السوشيال ميديا، هذا الغضب العارم وهذا الحب الجارف لأبنائنا هناك في التوابيت الحجرية.. نريدهم بيننا. هكذا كان لسان الشعب والقلب.. أراهن أن دموعاً كثيرة فاضت ألماً على الأسرى وكلها لم تعد تحتمل بقاءهم أكثر، صرنا مثل آبائهم وأمهاتهم وإخوتهم، نريدهم بيننا، نريد أن نراهم.. أن نعد لهم القهوة والخبز الطازج وسرير النوم ونحرس أحلامهم.
إنها شارة النصر التي خرجت من النفق كما جسدها رسامو الكاريكاتير، ولكنها إبهام اتهامنا بالتقصير وقلة الحيلة. صحيح أن الشعب الفلسطيني لا يملك من القوة ما يحررهم، ولكنه يستطيع أن يدعمهم معنوياً، أن يزلزل الأرض وينتشر في الشوارع والميادين ليجعل قضيتهم قضية الكون حين يهدد استقرار المنطقة في اللحظة التي يريدون الهدوء، بدءاً من البيت الأبيض وصولاً للكنيست. علينا أن نقايضهم بهذا الهدوء المنشود لا بتسهيلات اقتصادية، بل بهؤلاء الذين ضحوا من أجل الشعب ويجب ألا يتركوا وحيدين ويحرروا أنفسهم بأنفسهم، الحقيقة أن الشعب يتأخر عن نصرتهم، واعتصامات الأسرى قليلة العدد تكشف هذا القصور، لماذا؟

هذا المقال يعبر عن وجهة نظر صاحبه، ولا يعبر بالضرورة عن وجهة نظر وكالة صدى نيوز.