دراسة: هكذا تؤثر السياسة النقدية للاحتلال على التضخم في فلسطين
اقتصاد صدى - أصدر مركز الزيتونة للدراسات والاستشارات ورقة علمية بعنوان: “السياسة النقْدِيَّة الإسرائيلية وأثرها على التَّضخم في الاقتصاد الفلسطيني”.
وسعت الدراسة إلى تتبع مشكلةً مهمةً من المشاكل الكثيرة التي يعاني منها الاقتصاد الفلسطيني، ألا وهي مشكلة التضخم التي تختلف في ظروفها ومحيطها ومسبباتها عن التضخمات التي تعاني منها كل الاقتصاديات الناشئة والنامية، سواءً في المنطقة المحيطة أم في بقية أنحاء العالم، وذلك لسبب رئيس ومهم وهو: الخضوع والتبعية الاقتصادية شبه التامة للاقتصاد الإسرائيلي، والظروف الاحتلالية والحصار والتضييق.
وركزت الدراسة على مشكلةٍ مركزيةٍ ومصيريةٍ في الاقتصاد الفلسطيني، وهي في الحقيقة عدم وجود سياسة نقدية فلسطينية تمكنها من علاج مظاهر التضخم عبر أدواتها المختلفة، بالرغم من إنشاء سلطة النقد الفلسطينية التي من المفروض أن تقوم بجميع وظائف البنك المركزي والمسؤول الرئيس عن تنفيذ أدوات السياسة النقدية، إلا أنها، سلطة النقد، لم تحظَ بأهم وظيفة من وظائف البنك المركزي، ألا وهي إصدار العملة الوطنية، الأمر الذي أفقد سلطة النقد أهم أدواتها؛ التحكم في عرض النقود والتأثير على حجم التداول النقدي، بالإضافة إلى التأثير على أسعار الفائدة وتحديد سعر الصرف للعملة الوطنية، كما أنه حرم الاقتصاد الفلسطيني من الحصول على عائد الإصدار، عائد سك العملة “السينيوريج” والتي قدرتها كثير من الأبحاث الرسمية وغير الرسمية ما بين 2-5% من الناتج المحلي الإجمالي سنوياً، كما حرمها من إمكانية إصدار سندات وأذونات الخزينة بالعملة الوطنية.
وتضيف أن اتفاق باريس الاقتصادي المُوقَّع في 1995/4/29، وهو الملحق لإعلان مبادئ “أوسلو”، ويعدُّ الاتفاق التعاقدي الذي يحكم العلاقات الاقتصادية بين الطرفيْن الإسرائيلي، سمح بتداول ثلاث عملات أجنبية في الاقتصاد الفلسطيني (الشيكل الإسرائيلي، والدولار الأمريكي، والدينار الأردني) كبديل “مؤقت” لوجود عملة وطنية، وهو الأمر الذي عرّض الاقتصاد الفلسطيني لمخاطر تذبذبات أسعار صرف هذه العملات، نتيجة لعوامل داخلية في اقتصاديات الدول المصدرة لتلك العملات، وقد قُدَّرت خسائر تذبذب سعر صرف الشيكل لوحدهِ في إتمام المعاملات التجارية المختلفة، بنحو 500 مليون دولار سنويَّا، وكما أنه يؤدي إلى ارتفاع تكاليف الواردات الفلسطينية والتي تتأثر بمعدلات التضخم في موطن هذه الواردات، مما يسبب في استيراد التضخم من هذه البلدان إلى الاقتصاد الفلسطيني.
ونظراً لعدم وجود سياسة نقدية فلسطينية حقيقية تعالج مشكلة التضخم، حاولت هذه الدراسة البحث في إمكانية وجود تأثير للسياسة النقدية الإسرائيلية على هذه المشكلة؛ من خلال فحص تأثير الفائدة الرسمية التي يحددها البنك المركزي بالإضافة إلى سعر صرف الشيكل الإسرائيلي مقابل الدولار، وخلصت إلى أن التغيرات في معدلات التضخم في فلسطين كانت متسقة مع التغيرات في معدلاتها في إسرائيل، حيث ظهرت معدلات التضخم الشهرية في فلسطين متزامنةً مع معدلات التضخم الشهرية في إسرائيل، مما عكس درجة ارتباط الاقتصاد الفلسطيني بالاقتصاد الإسرائيلي، وخصوصاً في مجال التبادل التجاري والذي عمل على استيراد التضخم من إسرائيل.
وقد اكتشفت الدراسة أنه لم يكن للسياسة النقدية الإسرائيلية المتمثلة في نسبة الفائدة الرسمية التي يحددها البنك المركزي الإسرائيلي أي تأثير على مستويات التضخم في الاقتصاد الفلسطيني، على الأقل في فترة هذه الدراسة بين سنتَي 2012 و2020. وأما فيما يتعلق بسعر صرف الشيكل الإسرائيلي مقابل الدولار، والذي هو عبارة عن اشتقاق للسياسة النقدية الإسرائيلية، فقد كشفت الدراسة أن هناك تذبذباً وتبايناً في تأثير سعر الصرف على التضخم في الاقتصاد الفلسطيني، إيجابي في بعض السنوات، وسلبي في سنوات أخرى، وفقاً لارتفاع أو انخفاض سعر الصرف، خصوصاً وأن الاقتصاد الفلسطيني لم يكن قادراً حتى الآن التخلي عن الشيكل الإسرائيلي في معاملاته التجارية المختلفة، وذلك في ظلّ سريان مفعول اتفاقية باريس الاقتصادية بالرغم من انتهاء المدة الافتراضية لهذه الاتفاقية منذ نحو عشرين عاماً.
ورأى الباحث أن ذلك يدلّل على وجود أسباب أخرى للتضخم في الاقتصاد الفلسطيني، خصوصاً كونه يُمثل سوقاً صغيراً مفتوحاً معرَّضاً للتضخم المستورد، يتأثر بارتفاع أسعار السلع الأساسية مثل البترول، ومؤشرات أسعار الغذاء العالمية، والتي تحتل الوزن الأكبر في سلة المستهلك الفلسطيني، حيث إن التضخم في الاقتصاد الفلسطيني يُعدّ أيضاً تضخماً هيكلياً ينتج عن زيادة أسعار تكاليف الإنتاج، وبالتالي أسعار السلع المحلية، الأمر الذي يُحدث إقبالاً متزايداً على الواردات، والتي تؤدي إلى تأثّر ميزان المدفوعات سلباً، وبالتالي ارتفاع نسب ومعدلات التضخم، حيث يعتمد الاقتصاد الفلسطيني في إنتاجه بشكل كبير على المواد الخام المستوردة من الخارج عن طريق إسرائيل، أو من إسرائيل، بالإضافة إلى اعتماده كثيراً على السلع النهائية المستوردة.
وأوصت الدراسة بإعادة النظر في اتفاق باريس، وبما يتناسب مع حاجات المواطن والاقتصاد الفلسطيني. كما دعت لمطالبة إسرائيل بتعديل الاتفاق الاقتصادي من خلال ضغوط إقليمية ودولية بعد إظهار مساوئ ومضارّ هذه الاتفاقية، وذلك عن طريق إحراج إسرائيل أمام الرأي العام الدولي، خصوصاً وأن إسرائيل تطالب بتقديم الشق الاقتصادي على الشقِّ السياسي ولكن من دون الموافقة على مطلب “إسرائيل” في ذلك.
كما أوصت الدراسة بتكوين صندوق للاحتياطات النقدية من العملات الأجنبية القابلة للتداول لدعم عرض النقد وضمان استقراره في مواجهة أي أخطار أو هزات مفاجئة يُمكن أن تؤدي إلى زعزعة الثقة فيه، أو تذبذب قيمته مما قد يؤدي إلى اضطراب في المستوى العام للأسعار واستخدام هذه الاحتياطات لإطفاء العملات المتداولة بنجاح. ودعت إلى مطالبة الاحتلال وبأثر رجعي، بدفع كافة المستحقات المالية الناجمة عن عائد الإصدار “السينيوريج” لاستخدام الشيكل في المناطق الفلسطينية، كونه يعارض إصدار عملةً وطنيةً فلسطينيةً حتى الآن استناداً إلى بروتوكول باريس.
وأوصت الدراسة أيضاً بتقليص حجم الفائض من الشيكل يجب على سلطة النقد والسلطة الفلسطينية أن تعمل على تشجيع المواطنين على تقليص استخدام الشيكل كوسيط للتبادل التجاري؛ وذلك من خلال تشجيع استخدام الدينار والدولار في الصفقات التجارية، ويمكن أن يتمّ ذلك من خلال حوافز إجرائية، وعندها يمكن أن تبدأ الحكومة بدفع الرواتب وتسديد التزاماتها بغير الشيكل.
واختتمت التوصيات بالدعوة للتفكير في مسألة إصدار عملةً وطنيةً بعد إجراء الدراسات اللازمة والتحضيرات المطلوبة، والضغط على الاحتلال لإجباره على الموافقة ودون تغليب الاعتبارات السياسية على الاعتبارات الاقتصادية في هذا الشأن، ثم ربط هذه العملة بِسلّة من العملات التابعة للشركاء التجاريين بعد محاولة زيادة هؤلاء الشركاء.