الحر يُنهك العالم ويصوغ أسلوب حياة جديداً
صدى نيوز - بينما كان المذيع البريطاني مايكل موسلي يستمتع بإجازته الصيفية، ويتجول بمفرده في جزيرة سيمي اليونانية، انهار فجأة، أثناء سيره في درجات حرارة عالية، واختفى في ظروف غامضة، في التاسع من يونيو (حزيران) الجاري، وعُثر على جثته بعد عملية بحث استمرت 4 أيام.
ورجحت أسرة موسلي، وأطباء يونانيون، أن تكون الحرارة الشديدة وراء وفاة المذيع البريطاني، التي تزامنت مع سلسلة من حالات الوفيات والاختفاء بين السائحين في اليونان، بعد تعرض البلاد لموجة حر شديدة، هي الأكثر سخونة منذ عقود.
وعُثر يوم السبت 22 يونيو على جثة سائح هولندي في جزيرة ساموس اليونانية، ويوم الأحد 23 يونيو على جثة سائح أميركي في ماثراكي، ولا يزال سائح أميركي آخر يدعى ألبرت كاليبيت مفقوداً منذ 11 يونيو في جزيرة أمورجوس، فيما اختفت امرأتان فرنسيتان في سيكينوس بعد خروجهما في نزهة وسط أجواء شديدة الحرارة.
بموازاة ذلك، تشهد مناطق واسعة حول العالم موجات حر قياسية وغير مسبوقة، تنذر بكوارث إنسانية واقتصادية وبيئية. تخطت درجات الحرارة عتباتها التاريخية، تاركة وراءها أضراراً جسيمة على مختلف الأصعدة.
ورغم انتهاء عام 2023، الذي وصفه علماء المناخ بأنه الأكثر سخونة على الإطلاق، شهد النصف الأول من عام 2024 موجات حر قياسية طالت مناطق واسعة من العالم حتى قبل بداية فصل الصيف فلكياً في 21 يونيو.
وتُعرف موجات الحر الشديدة بأنها فترات طويلة تتجاوز خلالها درجات الحرارة 37 درجة مئوية لعدة أيام وليالٍ متتالية. وفي الأسابيع الأخيرة، تجاوزت موجات الحر التوقعات في عدة مناطق، حيث وصلت درجات الحر في شمال أفريقيا وجنوب شرقي آسيا إلى 50 درجة. وفي الولايات المتحدة، حذرت السلطات من موجة حر غير مسبوقة تضرب شمال شرقي البلاد.
ونقلت وكالة «أسوشييتد برس» عن إدارة الصحة العامة في ماريكوبا بولاية أريزونا الأميركية أن 6 أشخاص لقوا حتفهم لأسباب تتعلق بالحرارة في فينيكس، كما توفي شخصان في الستينات من العمر في ولاية أيداهو لأسباب مشابهة.
وفي المكسيك، سجلت السلطات 155 حالة وفاة نتيجة ارتفاع درجات الحرارة منذ مارس (آذار) الماضي، بينها 30 حالة خلال الأيام القليلة الماضية. وفي الهند، أفادت وسائل الإعلام بأن موجة الحر في نيودلهي تسببت بوفاة 50 شخصاً خلال الأسبوع الماضي.
وفي مصر، سجلت بعض المحافظات درجات حرارة تجاوزت 50 درجة مئوية، وفي بداية يونيو، لقي 80 سودانياً على الأقل مصرعهم أثناء محاولتهم العبور بشكل غير نظامي عبر الجبال والوديان إلى مصر، بسبب درجات الحرارة المرتفعة، وفق شهود عيان سودانيين تحدثوا لشبكة «بي بي سي» والذين قالوا إنه تم دفنهم في مقابر جماعية وسط الصحراء.
كما سجلت درجات الحرارة في الظل بالمسجد الحرام 51.8 درجة مئوية، بينما بلغت في مشعر مِنى 46 درجة مئوية أثناء رمي الجمرات الثلاث في أول أيام التشريق، وفقاً للمركز الوطني للأرصاد بالسعودية.
ما الأسباب؟
ارتفعت درجة الحرارة العالمية بسرعة كبيرة على مدى السنوات الخمسين الماضية نتيجة لثاني أكسيد الكربون (CO2) الذي يضاف إلى الهواء بشكل دائم عن طريق حرق الفحم والنفط والغاز للحصول على الوقود، وفق الدكتور سكوت دينينغ، أستاذ علوم الغلاف الجوي، بجامعة ولاية كولورادو الأميركية.
وأكد سكوت في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن «المصادر الأخرى للغازات الدفيئة تشمل الزراعة وإزالة الغابات، لكن هذه الأنشطة تساهم بأقل من 20 في المائة من تأثير التسخين الإضافي للأرض، فيما يتسبب الوقود الأحفوري في أكثر من 80 في المائة».
فيما تحذر الدكتورة كلير بارنز، الباحثة بمعهد جرانثام لتغير المناخ والبيئة، في جامعة إمبريال كوليدج لندن، من أن درجات الحرارة ستستمر في الارتفاع عالمياً ما دمنا نواصل إطلاق الغازات المسببة للاحتباس الحراري، وأن استخدام الوقود الأحفوري كان سبباً رئيسياً لمعظم الاحترار العالمي حتى الآن.
ورغم أن موجات الحرارة الحالية تعد «استثنائية» بحسب وصف بارنز، فإنها تتماشى مع توقعات النمذجة الحاسوبية، وتضيف بارنز لـ«الشرق الأوسط»: «من المتوقع أن يتعرض العالم لموجات حرارة أكثر تواتراً وشدة، بالإضافة لزيادة خطر الجفاف وحرائق الغابات وهطول الأمطار الغزيرة».
ويعزو أستاذ المناخ في جامعة الزقازيق بمصر، ونائب رئيس الهيئة العامة للأرصاد الجوية المصرية السابق، الدكتور علي قطب؛ تواصل موجات الحرارة التي بدأت منذ أكثر من شهر في عدة مناطق حول العالم، إلى ظاهرة النينيو التي تسبب ارتفاعاً لحرارة سطح مياه البحر، مما يؤدي لإطلاق المزيد من الحرارة في الجو وتكون هواء أكثر رطوبة وسخونة، بالإضافة إلى تراكم ثاني أكسيد الكربون وغيره من الغازات الدفيئة في الجو، نتيجة الاحتباس الحراري.
مؤكداً في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أن هذا يأتي «بالتزامن مع استخدام الوقود الأحفوري والتلوث البيئي، وتناقص المسطحات الخضراء وعدم تدوير المخلفات بشكل صحيح ما يزيد من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، ويسبب خللاً في طبقة الأوزون التي تحمي الأرض من الإشعاعات الشمسية الضارة».
خسائر بالجُملة
يزداد عدد المعرضين للحرارة الشديدة بسبب تغير المناخ حول العالم. وتشير البيانات إلى أن الوفيات الناجمة عن الحرارة بين الأشخاص الذين تجاوزوا سن الـ65 ارتفعت بنسبة تقريبية تصل لـ85 في المائة بين عامي 2000 و2021، حيث تم تسجيل وفاة نحو 489 ألف شخص سنوياً بسبب الحرارة، وفق منظمة الصحة العالمية.
وارتبط تزايُد أيام موجات الحر وأشهر الجفاف بمعاناة 127 مليون شخص إضافي من انعدام الأمن الغذائي في 122 دولة في عام 2021، مقارنةً بالفترة بين عامي 1981 و2010، وفق تقرير نشرته مؤخراً دورية «ذي لانست» الطبية. وتوقّع التقرير أن تشهد معدلات الوفيات الناجمة عن موجات الحر ارتفاعاً قدره 4.7 ضعفاً بحلول عام 2050 ما لم تُتَّخذ إجراءات فعلية لمواجهة تغير المناخ.
ويشير سكوت دينينغ، أستاذ علوم الغلاف الجوي بجامعة ولاية كولورادو الأميركية، إلى أن الطقس الأكثر حرارة قد يكون مميتاً، خصوصاً في المناطق الرطبة مثل المناطق الساحلية بجنوب غربي آسيا، كما يؤدي لتبخر كميات أكبر بكثير من المياه من النباتات والتربة، مما يتسبب في خسائر كبيرة بإنتاجية المحاصيل والماشية.
وأضاف أن المحيطات الأكثر دفئاً تؤدي لتبخر المزيد من المياه في الهواء، مما يجعل هطول الأمطار أكثر تطرفاً ويسبب فيضانات مدمرة في العديد من المناطق. كما تتوسع المحيطات الأكثر سخونة وبالتالي تغمر المناطق الساحلية المنخفضة مثل دلتا الأنهار حول العالم.
ونبه إلى أنه ما لم يحقق العالم تحولاً سريعاً للطاقة النظيفة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح والطاقة النووية، فمن المتوقع أن يتم تهجير ما يصل لـ600 مليون شخص من منازلهم على مدى السنوات الخمسين المقبلة، ما يقود لأزمات لاجئين واسعة النطاق، وزعزعة استقرار الاقتصادات العالمية، وصراع واسع النطاق.
فيما شددت كلير بارنز، الباحثة بمعهد جرانثام لتغير المناخ والبيئة في جامعة إمبريال كوليدج لندن، على أن موجات الحر هي الأكثر فتكاً بين أنواع الطقس القاسي، خصوصاً على كبار السن والمرضى، وغالباً ما يشار إليها باسم «القاتل الصامت» لأن الوفيات لا تكون مرئية على الفور.
وبالإضافة إلى الخسائر البشرية التي تحدثها الحرارة الشديدة، فإن «البنية التحتية تتعرض أيضاً لأضرار نتيجة التمدد الحراري، مما يزيد من تكاليف الصيانة والإصلاح، ويرتفع استهلاك الطاقة بسبب زيادة استخدام أجهزة التبريد، كما يتأثر الإنتاج الزراعي سلباً نتيجة تلف المحاصيل بسبب الجفاف، مما يؤدي لخسائر مالية للمزارعين وارتفاع أسعار المواد الغذائية، بحسب أستاذ العلوم البيئية بجامعة عين شمس في مصر، الدكتور وحيد إمام.
وأشار إمام في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» إلى أن الخسائر البيئية لموجات الحر تشمل موت النباتات والحيوانات، وزيادة حرائق الغابات، ونقص الموارد المائية نتيجة جفاف الأنهار والبحيرات.
أسلوب حياة جديد
فرضت موجة الحر الحالية نمط حياة جديداً، في بعض البلدان، من بينها اليونان، التي تعتمد على السياحة بشكل كبير، إذ أصدرت السلطات توجيهات بإغلاق جميع المواقع الأثرية خلال ساعات ذروة الحر، بما في ذلك الأكروبوليس في أثينا، وفقاً لوزارة الثقافة اليونانية. ودعت وزارة العمل اليونانية الشركات لتعزيز العمل عن بُعد، بينما أوصت وزارة الصحة بتجنب التنقل غير الضروري خلال النهار.
وفي الكويت، ألزمت وزارة الكهرباء المصانع بوقف التشغيل خلال ساعات الذروة لتخفيض استهلاك الطاقة بنسبة تتراوح بين 30 و40 في المائة يومياً. ووجهت الهيئة العامة للتعليم التطبيقي والتدريب جميع كليات ومعاهد الهيئة لتحويل المحاضرات إلى التعليم عن بُعد عبر برنامج «التيمز». وأهابت السلطات بضرورة ترشيد استخدام الإنارة في المكاتب والاعتماد على الإضاءة الشمسية من الساعة 11 صباحاً حتى المساء، بالإضافة إلى ترشيد استخدام الطاقة الكهربائية بشكل عام.
أما في مصر، فقد وصلت فترات انقطاع الكهرباء إلى 3 ساعات يومياً لتخفيف الأحمال، نتيجة موجة الحر الشديدة وزيادة الاستهلاك المحلي من الكهرباء، حسب ما أعلنه مجلس الوزراء.
ومنذ العام الماضي، لجأت الحكومة المصرية لخطة تسمى «تخفيف الأحمال»، تقضي بقطع التيار عن مناطق عدة يومياً، نتيجة أزمة في إمدادات الطاقة. لكن هذه الأزمة تفاقمت مؤخراً مع ارتفاع درجات الحرارة.
وفي السعودية بدأت وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية تطبيق حظر العمل تحت أشعة الشمس على جميع منشآت القطاع الخاص، من الساعة 12 ظهراً إلى الساعة 3 مساءً، بداية من منتصف يونيو الجاري، وحتى منتصف شهر سبتمبر (أيلول) المقبل.
الحل في التكيُّف
ومع تنامي الخسائر البشرية والمادية لتفاقم درجات الحرارة، يتشكل نمط جديد لحياتنا اليومية، يحتاج من المجتمعات والحكومات تبني أساليب جديدة للتكيف مع تداعيات تغير المناخ.
وحثّ دينينغ على دعم عملية انتقال الاقتصاد العالمي للطاقة النظيفة بأسرع وقت ممكن، مع التحول للطاقة الشمسية وطاقة الرياح التي تكلف أقل من الفحم والنفط والغاز.
وشدد على أهمية تحقيق العدالة في توزيع الكهرباء واستخدام البطاريات والطاقة النووية لتلبية الطلب على الكهرباء في الأماكن المحرومة، وهذا يعني أن الدول الأكثر ثراءً في الشمال العالمي يجب أن تقدم المساعدة المالية والفنية لتحقيق التنمية المستدامة في الجنوب العالمي.
ونصح قطب بضرورة إصدار توصيات قوية وفعّالة للحد من تداعيات تغير المناخ، تشمل حظر حرق أو قطع الغابات وزيادة المسطحات الخضراء وتعزيز طرق تدوير المخلفات بطرق علمية ومنع استخدام الأكياس البلاستيكية وتشديد الرقابة والعقوبات لمنع إهدار المياه أو تدهور الأراضي الزراعية.
فيما يرى إمام أن الحكومات يجب أن تدعم سبل التكيف مع التغيرات المناخية، عبر تعزيز قدرة المجتمعات، خصوصاً الفئات الضعيفة مثل كبار السن والأطفال والنساء، على مواجهة تحديات البيئة، وذلك من خلال توفر رعاية صحية جيدة وخدمات اجتماعية، ومصادر غذاء مناسبة ومياه صحية، ومأوى مناسب يساعد الأشخاص على التكيف مع أي آثار سلبية محتملة.
وشددت بارنز على ضرورة الاستعداد لمزيد من الظواهر الجوية المتطرفة من خلال وضع خطط عمل حكومية تشمل تطوير أنظمة الإنذار المبكر، وحملات التوعية، وتعديل جداول ساعات العمل وتوقيت المدارس لحماية العمال والطلاب، وإنشاء محطات مؤقتة لتوفير مياه الشرب والإسعافات الأولية.
ووفقاً لمنظمة الصحة العالمية، يجب على الجمهور اتخاذ إجراءات للحد من تبعات الحر، تشمل البقاء في أماكن باردة، واستخدام المكيفات، وشرب الماء بانتظام، وارتداء ملابس خفيفة، وتجنب النشاط البدني وقت ذروة الحر، ومراقبة الفئات الضعيفة، وتقديم المساعدة لهم.