مركز ثبات للبحوث: ثلاثة سيناريوهات ممكنة لإنشاء المجلس التأسيسي
صدى نيوز - أصدر مركز ثبات للبحوث واستطلاعات الرأي الورقة الثانية ضمن الأوراق السياساتية التي يصدرها المركز للعام 2024. تتناول هذه الأوراق قضايا سياساتية داخلية وخارجية تهم المجتمع الفلسطيني وصانع القرار.
-الانتقال من القرارات الرمزية إلى الأفعال السياسية لتجسيد الدولة
-ثلاثة سيناريوهات ممكنة لإنشاء المجلس التأسيسي
أعاد اعتراف كل من اسبانيا وإيرلندا والنرويج وسلوفينيا وأرمينيا بالدولة الفلسطينية، وتصويت الجمعية العامة في الأمم المتحدة لصالح أهلية وجهوزية دولة فلسطين لاكتساب العضوية الكاملة "العاملة" في الأمم المتحدة ومنحها امتيازات الدول الأعضاء باستثناء حق التصويت والترشح لأجهزة الأمم المتحدة في شهر أيار/ مايو الفارط، من جديد فتح النقاش حول آليات الانتقال من القرارات "الرمزية" إلى الأفعال لبناء الجسم السياسي لمؤسسات الدولة بما يتيح استكمال قرارات المجلس الوطني في دورته التاسعة عشر المنعقدة في الجزائر عام ١٩٨٨، وتجسيم وثيقة إعلان الاستقلال، وقرار المجلس الوطني آنذاك "تكليف اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية بصلاحيات ومسؤوليات الحكومة المؤقتة لحين إعلان تشكيل حكومة دولة فلسطين"، وبما يسمح باستعادة الوحدة وإنهاء الانقسام بتوحيد مؤسسات الدولة العتيدة باتفاق وطني ما يحقق وجود الفصائل الفلسطينية كافة بغض النظر عن طبيعة الحكومة وشكلها.
مثلت فكرة إقامة الدولة الديمقراطية "درة التاج" في المشروع الوطني الفلسطيني؛ حيث يأخذ مفهوم الدولة الحيز المركزي في فكر الفصائل الفلسطينية المركزية وبرامجها السياسية؛ وذلك بغض النظر عن طرائق الوصول لإقامتها سواء عبر الكفاح المسلح أو المقاومة الشعبية أم المفاوضات، أو الخلاف على استراتيجية النضال الوطني وليس الهدف الوطني، ناهيك عن إقرار عالمي بخيار حل الدولتين وبخاصة لدى القوى الدولية المؤثرة فيه. يقضي مفهوم الدولة الفلسطينية بإنهاء الاحتلال وانسحابه من الأراضي المحتلة عام 1967، الأمر الذي يحقق للفلسطينيين قدرتهم على ممارسة حق تقرير المصير دون تأثير من أيّ طرفٍ خارجي على خياراتهم لشكل العلاقة مع الآخرين وشكلُ استقلالهم.
تظهر وثائق منظمة التحرير الفلسطينية ذاتها، مثل وثيقة إعلان الاستقلال، مسألتين: الأولى؛ أنّ الغاية من النضال الفلسطيني هي الوصول إلى إقامة الدولة. والثانية؛ أنّ منظمة التحرير هي وسيلة للوصول إلى هذه الغاية. في المقابل بُنيَّ مفهوم الدولة المتخيلة في وثيقة إعلان الاستقلال على مسألتين جوهريتين؛ الأولى: تتعلق بالسيادة المُعبرة عن إرادة المواطنين الحرة، والثانية: بناء نظام حكم ديمقراطي يقوم على سيادة القانون والعدالة الاجتماعية؛ أي أنّ الدولة العتيدة بغض النظر عن حدودها الجغرافية تضم الفلسطينيين كافة "إنَّ دولة فلسطين هي للفلسطينيين أينما تواجدوا" دون الانتقاص من الانتماء للعلاقة الخالدة بالوطن والرابطة القانونية بالدولة، فيما منظمة التحرير الفلسطينية "الوسيلة" تبقى وطناً معنوياً لجميع الفلسطينيين وتتحول وظيفتها من سياسية تعنى بالتمثيل السياسي، وهي المتبقية اليوم، إلى الرابط أو حلقة الوصل بين الفلسطينيين في الشتات وبين الدولة ومؤسساتها.
تستعرض هذه الورقة ثلاثة سيناريوهات ممكنة للانتقال من القرارات الرمزية إلى الأفعال السياسية لإنشاء المجلس التأسيسي في إطار استكمال تجسيد الدولة الفلسطينية العتيدة وبناء مؤسساتها السياسية وكمدخل لاستعادة الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام؛ السيناريو الأول: يقضي بانتخاب المجلس التأسيسي، والسيناريو الثاني: إعمال وتفعيل المجلس المركزي بقيامه بدور المجلس التأسيسي للدولة ووظيفته، والسيناريو الثالث: التوافق على تعيين أعضاء المجلس التأسيسي من الأطياف السياسية المختلفة ومن الكفاءات الوطنية.
الدولة في الفكر السياسي الفلسطيني وتجسيدها
تحتل فكرة تجسيد الدولة المعلن عنها في وثيقة إعلان الاستقلال في المحافل الدولية والمنتظمات الأممية مساحة واسعة في منهج عمل منظمة التحرير الفلسطينية والفصائل الفلسطينية؛ للحصول على تأييد دولي لإقامة الدولة الفلسطينية باعتبار هذا الأمر مقبولاً دولياً تحت شعار خيار حل الدولتين من جهة، والرغبة في تحقيق حلمٍ لَمِ شمل الفلسطينيين في دولة تعبر عنهم وتحميهم من معاناة الشتات من جهة ثانية.
على المستوى الخارجي، بدأت هذه المسيرة في أروقة الأمم المتحدة عام ١٩٧٤ واستمرت بتطوير مكانة فلسطين في الأمم المتحدة. ظهر هذا الأمر بشكل واضح في الإصرار على حسم الاتفاق على حدود الدولة الفلسطينية في المفاوضات التي أجراها الرئيس الفلسطيني محمود عباس مع رئيس الحكومة إيهود أولمرت كنقطة مركزية للانطلاق نحو بحث ملفات المفاوضات الأخرى عام ٢٠٠٨، والاستمرار في محاولات طلب العضوية في الأمم المتحدة الذي فشل بالحصول عليها في مجلس الأمن عام ٢٠١١، وثم طلب ترفيع مكانة فلسطين إلى دولة مراقبة عام ٢٠١٢ الأمر الذي أَهَلَ دولة فلسطين للانضمام إلى المنظمات والاتفاقيات الدولية كعضو فيها كإحدى أدوات الصراع، وفي العام ٢٠٢٤ تم تقديم طلب عضوية الأمم المتحدة لمجلس الأمن لكن الولايات المتحدة استخدمت حق النقض "الفيتو" لمنع التوصية للجمعية العامة بقبول الطلب،[2] وأمام الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن عقدت الجمعية العامة بتاريخ ١٠/٥/٢٠٢٤ التي أصدرت قرارها رقم ٢٣/١٠ES- القاضي بأهلية دولة فلسطين بالعضوية ومطالبة مجلس الأمن بإعادة النظر من جديد بالإضافة إلى منح دولة فلسطين امتيازات استثنائية في أروقة هيئة الأمم المتحدة.
يبدو أنّ لدى القيادة السياسية الفلسطينية إدراك بأنّ العضوية في الأمم المتحدة يمنحها أدوات جديدة في الصراع السياسي والقانوني في أروقة المؤسسات الدولية بالانتقال من النزاع على أراضٍ محتلة إلى أراضي دولة محتلة ينطبق عليها إعمال الباب السابع من ميثاق الأمم المتحدة، ومن طلب رأي استشاري من محكمة العدل الدولية إلى فض النزاع بقرار من المحكمة التي تصبح دولة فلسطين عضواً في نظامها الأساسي.
أما على المستوى الداخلي، فقد جرى خلال السنوات الاثنتي عشرة سنة الأخيرة اتخاذ قرارات سياسية رمزية لاستبدال مؤسسات السلطة الفلسطينية بمؤسسات الدولة. وتمثلت تلك الإجراءات بما يلي: (١) استبدال اسم "السلطة الوطنية الفلسطينية" بدولة فلسطين في المؤسسات الفلسطينية الرسمية، ومن ثم شطب كلمة رئيس السلطة الوطنية من توقيع الرئيس على القرارات بقوانين والمراسيم والقرارات الرئاسية وتذيلها برئيس دولة فلسطين ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية على إثر رفع مكانة فلسطين إلى دولة مراقبة في الأمم المتحدة بموجب قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ١٩/٦٧ الصادر في ٢٦ تشرين ثاني/ نوفمبر ٢٠١٢.
(٢) تغيّر الصياغة التشريعية التي تصدر بموجبها التشريعات الفلسطينية الصادرة عن رئيس السلطة الفلسطينية بدءاً من العدد ١٥٢ من الجريدة الرسمية الصادر بتاريخ ١٩/٢/٢٠١٩، حيث تم شطب النص الاستناد إلى أحكام المادة ٤٣ من القانون الأساسي المعدّل لسنة ٢٠٠٣م وتعديلاته" من مقدّمة القرارات بقانون وأصبحت هناك صياغة أخرى هي: "استناداً إلى النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية، واستناداً إلى أحكام القانون الأساسي المعدّل لسنة ٢٠٠٣ وتعديلاته" كما تم شطب المادة في الأحكام الانتقالية في القرارات بقوانين التي تنص على أنّ القرار بقانون يُعرَض على المجلس التشريعي في أول جلسة يعقدها لإقراره والتي يجب أنْ ترد في كلّ قرار بقانون، على إثر قرار حل المجلس التشريعي، وفقاً لقرار المحكمة الدستورية التفسيري في الثاني عشر من كانون أول/ ديسمبر ٢٠١٨ الذي قضى "بحلّ المجلس التشريعي والدعوة إلى انتخابات تشريعية خلال ستة شهور من تاريخه".
ثلاثة سيناريوهات لتجسيد الدولة الفلسطينية عبر المؤسسات السياسية
تقوم الدول عادة بإنشاء مجلس تأسيسي أو جمعية وطنية عند الاستقلال كما هو الحال في أغلب دول العالم إثر تحررها من الاستعمار، أو إعادة النـظر في البناء الدستوري في المراحل الانتقالية كما حدث في تونس ومصر بعد الربيع العربي، أما في الحالة الفلسطينية فإنّ انشاء هكذا مجلس يأتي للانتقال من الازدواجية القائمة بين السلطة والمنظمة، وتفعيل الاعتراف الدولي بما فيه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفرض أمر واقع في المواجهة مع الاحتلال وإجراءاته، وتوفير وعاء وطني جامع كمدخلٍ لاستعادة الوحدة وتجاوز التحديات المحتملة أمام الاندماج الوطني في إدارة الحكم وتبعاته وأعباءه.
(1) السيناريو الأول: مجلس التأسيسي بالانتخاب
هذا السيناريو يقضي بإجراء انتخابات عامة حرة ونزيه لاختيار أعضاء المجلس التأسيسي وفقاً لقانون الانتخابات العامة المتفق عليه حيث يمثل قانون الانتخابات العامة رقم (١) لسنة ٢٠٠٧ وتعديلاته أساساً لإجراء هذه الانتخابات. وهذا السيناريو ينسجم مع تعديل قانون الانتخابات في العام ٢٠٢١ الذي عدل عبارة السلطة الفلسطينية ورئيس السلطة إلى دولة فلسطين ورئيس دولة فلسطين. بالإضافة إلى دمج منصب رئيس دولة فلسطين ورئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية معاً وهو الذي سيتم انتخابه وفقاً لأحكام المادة ٢ من القانون.
تظهر استطلاعات الرأي العام أنّ أغلبية واسعة تريد إجراء الانتخابات والمشاركة فيها؛ حيث يريد (٧٢%) من الجمهور الفلسطيني إجراء انتخابات تشريعية ورئاسية معاً وفقاً لنتائج استطلاع الرأي (٧١) الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في شهر آذار/مارس ٢٠١٩، ويريد ثلثي الجمهور الفلسطيني إجراء الانتخابات العامة وفقاً لنتائج استطلاع الرأي (٨٧) الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في شهر آذار/مارس ٢٠٢٣، فيما يقول ٧٠٪ من الفلسطينيين بأنّهم سيشاركون في الانتخابات العامة في حال تم إجراؤها وفقاً لنتائج استطلاع الرأي (٩٢) الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في شهر حزيران/يونيو ٢٠٢٤.
أحد مزايا هذا السيناريو وجود اتفاق وطني على هذا القانون حيث تم الاتفاق بين الفصائل الفلسطينية في العام ٢٠٢١ عليه لإجراء الانتخابات التشريعية للسلطة الفلسطينية آنذاك. كما تمثل هذه الانتخابات فرصة في هذه الحالة لمعرفة التوجهات السياسية للناخبين/ الفلسطينيين وهي تعبر عن طرق ووسائل العمل السياسي وغايات الشعب الفلسطيني المتمثلة بإنهاء الاحتلال، حيث ترى الأغلبية الواسعة (٨٨٪) من المواطنين أنّ إنهاء الاحتلال وحق العودة هي الغايات الأساسية للفلسطينيين، فيما يرى ١٢٪ أنّ الغاية الأولى والحيوية ينبغي أنْ تكون بناء فرد صالح ومجتمع متدين، فيما تقول نسبة من ٩٪ ينبغي أنْ يكون قيام نظام حكم ديمقراطي يحترم حقوق الانسان الفلسطيني. وأنْ التمثيل داخل المجلس التأسيسي يكون متطابق ومماثل لتصويت الناخبين خاصة أنّ قانون الانتخابات يعتمد النظام النسبي الذي يمنح الكتل الانتخابية "الفصائل" ذات الحجم الذي تمثله في المجتمع، وفي الوقت ذاته يمنح المواطنين ممارسة حقهم باختيار ممثليهم في المجلس التأسيسي.
بالرغم من المزايا المتعددة لإجراء الانتخابات وأهميتها، إلا أنّ الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة وتدمير البنى التحتية وممتلكات المواطنين وظروف قطاع غزة لا تتيح إجراء الانتخابات العامة في المدى المنظور حيث أنّ متطلبات إعادة الإنعاش في القطاع تتطلب الاهتمام بأولويات المواطنين من توفير الإغاثة وإعادة البناء وغيرها من الضرورات الحياتية. كما يتطلب هذا السيناريو تجاوز عقدة تصويت الناخبين في مدينة القدس والاتفاق الوطني حول هذا الأمر.
(2) السيناريو الثاني: تولي المجلس المركزي وظيفة المجلس التأسيسي
يقضي هذا السيناريو بتنصيب المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية وتوليه وظيفة المجلس التأسيسي المتمثلة بصياغة دستور دولة فلسطين ومنح الثقة لحكومة دولة فلسطين والرقابة على أعمالها، وهو ذاته الذي يختار رئيس الدولة وفقا لقرارات المجلس الوطني الفلسطيني. تحظى منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده بقبول أغلبية المواطنين الفلسطينيين، حيث تقول أغلبية من ٥١% إنّ منظمة التحرير الفلسطينية الراهنة هي ممثلها الشرعي والوحيد، وفقاً لنتائج استطلاع الرأي الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في آذار/ مارس ٢٠٢٢.[3] في المقابل فإن أغلبية المواطنين (٧١٪) غير راضين عن الدور الذي تقوم به منظمة التحرير الفلسطينية لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني في الاستقلال وفقاً لنتائج استطلاع الرأي الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في أيلول/ سبتمبر ٢٠٢٣.[4]
يتمتع هذا السيناريو بمزايا متعددة منها؛ أنه لا يحتاج لتعقيدات لوجستية أو سياسية في اتخاذ القرار داخل منظمة التحرير الفلسطينية، فقد فَوَضَ المجلسُ الوطني الفلسطيني المجلسَ المركزي الفلسطيني كامل صلاحياته التشريعية والرقابية المنصوص عليها في النظام الأساسي لمنظمة التحرير الفلسطينية بموجب قرار المجلس الوطني بتاريخ ٤/٥/٢٠١٨ المعلن في "إعلان القدس والعودة صادر عن دورة القدس وحماية الشرعية الفلسطينية".
وفي دورته الحادية والثلاثين المنعقدة في بتاريخ ٦-٨ شباط/ فبراير ٢٠٢٢، قرر المجلس المركزي بـ"ضرورة مواصلة العمل على تكييف الوضع القانوني لمؤسسات الدولة الفلسطينية وعلاقاتها الدولية تنفيذاً لقرار الجمعية العامة رقم ١٩/٦٧ للعام ٢٠١٢" الخاص برفع مكانة فلسطين إلى دولة مراقبة في الأمم المتحدة. وبضرورة ممارسة المجلس المركزي صلاحياته الدستورية وولايته الرقابية على الجهات التنفيذية في المنظمة وأجهزتها ومؤسساتها، وعلى السلطة الوطنية الفلسطينية وعمل الاتحادات والنقابات والجمعيات وفق القوانين التي تنظم عملها. كما أنّ الرئيس أصدر قراراً[5] في العام ٢٠٢٢ يقضي بـ"وضع الأمانة العامة للمجلس التشريعي ومكوناتها ومرافقها كافة تحت مسؤولية رئيس المجلس الوطني" يحظى هذا السيناريو على الأغلب برضا المجتمع الدولي خاصة الدول التي تعترف بالدولة الفلسطينية.
إنّ أبرز عيوب هذا السيناريو تراجع ثقة المواطنين بالقيادة السياسية وقرارتها مما أدّى إلى تراجع مكانتها وتآكل الثقة بمؤسسات الدولة "السلطة والمنظمة". تشير استطلاعات الرأي العام إلى عدم رضا المواطنين عن أداء المجلس المركزي؛ فوفقاً لنتائج استطلاع الرأي الذي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في آذار/ مارس ٢٠٢٢[6]توافق أغلبية من ٥٦% على موقف المقاطعين لاجتماع المجلس المركزي القائل بأنّ الاجتماع كان غير شرعي فيما تقول نسبة من ٢٩% فقط أنّه شرعي. كما أنّ النسبة الأكبر (٧٠٪ تقريبا) من الجمهور لا تؤيد انتخابات الشخصيات الفلسطينية التي تم انتخابها أثناء اجتماع المجلس المركزي. وفي استطلاع أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في تموز ٢٠١٨[7] بعد حوالي شهرين من انعقاد المجلس الوطني، تقول أغلبية كبيرة (٦٥%) غير راضية عن طريقة المجلس في اختيار أعضاء اللجنة التنفيذية للمنظمة وتقول نسبة من ٢٣% فقط أنّها راضية عن طريق الاختيار هذه. كذلك، فإنّ أغلبية كبيرة (٧١%) غير راضية عن قدرة أعضاء اللجنة التنفيذية على تمثيل الوطن والشتات نظراً لمتوسط أعمارهم وتركيز مكان إقامتهم في الضفة الغربية وتقول نسبة من ٢٠% فقط أنّها راضية عن قدرة أعضاء التنفيذية على تمثيل الوطن والشتات.
ناهيك عن أنّ تنصيب أو تولي المجلس المركزي مهام المجلس التشريعي سيعبر عن توجه واحد دون الأخذ بعين الاعتبار التوازنات السياسية والتحولات على البنية السياسية والحزبية للمجتمع الفلسطيني، وأنّ ذلك يأتي في ظل غياب وحدة وطنية تتيح فرص للقوى السياسية خارج منظمة التحرير المشاركة المتوازنة فيها، وأنّ هذا القرار سيأخذ عليه صبغة التفرد في صياغة دستور دولة فلسطين المستقبلي. ولا يتيح هذا السيناريو فرصة استعادة الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام ويعرقل عمل الحكومة المعتمدة منه في قطاع غزة.
(3) السيناريو الثالث: إقامة مجلس تأسيسي بالتعين التوافقي
يقضي هذا السيناريو بإنشاء مجلس تأسيسي بالتوافق بين الفصائل والقوى الاجتماعية الفلسطينية بما يتيح مشاركة متوازنة للقوى السياسية والاجتماعية، وبما ينسجم مع مكانتها في المجتمع الفلسطيني وقدرتها. هذه الخطوة تأتي في ظل ضعف إمكانية إجراء الانتخابات العامة بسبب الحرب على قطاع غزة وعدم توفر الإمكانيات الضرورية لإجرائها بما يضمن المساواة والعدالة وقيم النزاهة فيها.
تشير استطلاعات الرأي التي أجراها المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية[8] إلى أنّ إنهاء الانقسام وتوحيد الضفة الغربية وقطاع غزة يحظى بتأييد واسع بين جمهور من الفلسطينيين باعتبارها مصلحة وطنية عليا؛ حيث أظهرت نتائج الاستطلاع رقم ٧٥ الذي أجراه المركز الفلسطيني في شباط/ فبراير ٢٠٢٠ أنّ نسبة من ٩٠% من المواطنين يؤيدون انهاء الانقسام وتوحيد الضفة والقطاع. ويرى ٨٤٪ من المواطنين أنّ تحقيق مصالحة فوراً وتوحيد الضفة العربية وقطاع غزة وتشكيل حكومة وحدة وطنية هما الإجراءان الأكثر أهمية اللذان يجب اتخاذهما لمعالجة الحرب الحالية على غزة (٥١٪ يفضلون المصالحة و٣٣٪ يفضلون تشكيل حكومة وحدة وطنية). ويرتفع التأييد إلى ٩٠٪ في قطاع غزة (٦١٪ يفضلون المصالحة و٢٩٪ يفضلون تشكيل حكومة وحدة وطنية) مقابل ٨٠٪ في الضفة الغربية (٤٤٪ يفضلون المصالحة و٣٦٪ يفضلون تشكيل حكومة وحدة وطنية)
إنّ أحد مزايا هذا السيناريو أنّه يقوم على اتفاق وطني ما يعزز استعادة الوحدة الوطنية وإنشاء حكومة يتم التوافق على شكلها وطبيعتها تحت رقابة المجلس التأسيسي، وأنّ الحوار والنقاش المتعلق بالدستور وأحكامه وقواعد الحكم وشكل النظام السياسي المستقبلي متفق عليها بشكل واسع من الفصائل الفلسطينية كافة. في جانب آخر يتيح هذا الاتفاق الفرصة لتوحيد مؤسسات الدولة في الضفة والقطاع مما قد يعجل من إمكانية تسريع الإشراف على برنامج إعادة الإنعاش في قطاع غزة وإعادة الإعمار في ظل حكومة مقبولة دولياً.
إنّ أبرز عيوب هذا السيناريو ما قد يحدثه من إشكاليات تتعلق بالاتفاق على أعضاء المجلس التأسيسي في ظل سنوات من الخلاف بين حركتي فتح وحماس بشكل خاص، وإطالة أمد الحوار الفلسطيني الداخلي في الشؤون السياسية ومتطلبات عملية الاندماج الوطني مما يفقد هذه الخطوة أهميتها. كما أنّ فكرة التعيين لأعضاء المجلس التأسيسي غير مقبولة من قبل قطاعات شعبية مختلفة، وتواجه معارضة من قبل المجتمع الدولي لدخول حركة حماس المؤسسة "التشريعية" بشكل خاص بعد أحداث السابع من أكتوبر ٢٠٢٣. وقد يواجه اندماج أو وجود حركتي حماس والجهاد الإسلامي في المؤسسات السياسية الفلسطينية معارضة من بعض الدول النافذة مثل الولايات المتحدة الأمريكية المتحدة وإسرائيل، وقد تتعرض دولة فلسطين ومؤسساتها لضغوطات من قبل أطراف إقليمية أيضا.
الخلاصة
تستدعي مركزية فكرة الدولة في المسار السياسي أو الصراع الفلسطيني الإسرائيلي؛ كأحد أوجه الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، اتخاذ القرارات الداخلية بما ينسجم مع المصلحة الوطنية خاصة بعد التضحيات الجسام التي قدمها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة في الأشهر التسعة الماضية من جهة، وفي مواجهة محاولات تقويض السلطة الفلسطينية وتحلل حكومة الاحتلال من الاتفاقيات الموقعة من جهة ثانية. والاستجابة للتحولات الدولية بازدياد التضامن الدولي خاصة الشعوب الأوروبية وتحول هذا التضامن إلى حركة شعبية شبه منظمة، وبالإدراك المتسارع أنّ الاعتراف بالدولة الفلسطينية تدعم قوى السلام في المنطقة وتلغي الفيتو الممنوح لإسرائيل طوال السنوات الماضية على إقامة الدولة الفلسطينية من جهة ثالثة. ولتتويج الجهود السياسية والدبلوماسية المتواصلة للفلسطينيين على مدار أكثر من عقد ولمكانة دولة فلسطين "الاستثنائية" في هيئة الأمم المتحدة، وتخطي الانتظار الطويل لتجاوز الفيتو الأمريكي في مجلس الأمن بوجه طلب عضوية دولة فلسطين في هيئة الأمم المتحدة من جهة رابعة.
يفرض استكمال العمل على تجسيد دولة فلسطين إنشاء مجلس تأسيسي مهمته اعتماد دستور دولة فلسطين العتيدة، وتشكيل حكومة فلسطينية تتولى إدارة الشأن والمال العام والرقابة عليها وإصدار تشريعات ضرورية لإدارة المرحلة الانتقالية هذه؛ وذلك لمدة محدودة ومحددة تجري في نهايتها الانتخابات العامة وفقاً لقانون انتخابات عامة منسجمٍ مع القواعد الناظمة للنظام السياسي والحكم المعتمد في الدستور الجديد. بالإضافة إلى أنّ إنشاء المجلس التأسيسي بات ضرورة كمدخل لاستعادة الوحدة وإنهاء الانقسام بما يشمل توحيد مؤسسات الدولة في الضفة وغزة، وتكريس الدولة الفلسطينية بما ينسجم مع تحويل الاعترافات الدولية إلى واقع، وفرضه كأحد أوجه الصراع وأدواته، وتجاوز التحديات المحتملة أمام الاندماج الوطني، والانتقال من الوسيلة "منظمة التحرير الفلسطينية" إلى الغاية "دولة فلسطين العتيدة".
إنّ المفاضلة بين السيناريوهات الثلاثة، التي تم ذكرها في هذه الورقة، يشير إلى أنّ السيناريو الأول المتمثل بإجراء الانتخابات للمجلس التأسيسي هو السيناريو الأمثل لأنّه مبني على إرادة المواطنين واختيارهم لممثليهم في المجلس بالاقتراع المباشر، أما السيناريو الثاني المتمثل بتنصيب المجلس المركزي لمنظمة التحرير الفلسطينية فهو السيناريو الأسهل بحيث يتم تفعيل قرار الرئيس رقم ٣١ لسنة ٢٠٢٢ ويتولى بالإضافة إلى صياغة الدستور الرقابة على الحكومة القائمة، وقرار المجلس المركزي في شهر شباط/ فبراير ٢٠٢٢. فيما السيناريو الثالث القائم على إنشاء مجلس تأسيسي بالتعيين التوافقي بين الفصائل والقوى الاجتماعية الفلسطينية هو السيناريو الأفضل؛ فهو قائم على اتفاق فلسطيني يساهم في عملية الاندماج الوطني ويساعد على استعادة الوحدة الوطنية وإنهاء الانقسام بتوحيد مؤسسات الدولة ويحسم مسألة البرنامج السياسي للفلسطينيين كافة القائم على أساس إقامة دولة على حدود الرابع من حزيران ١٩٦٧وقرارات الأمم المتحدة. وفي هذا السيناريو يمكن التغلب على موضوع المحاصصة في عضوية المجلس التأسيسي بين الفصائل بناءً على متوسط التأييد للقوى السياسية على مدار السنوات العشرة الأخيرة على سبيل المثال، وتحديد معايير الكفاءات الاجتماعية في المجلس بما ينسجم مع متوسط النسبة لغير الحزبيين في استطلاعات الرأي العام.