في الذكرى الخامسة والثلاثين لاستشهاد شاعر الثورة والحياة ...علي فودة
أهم الأخبار

في الذكرى الخامسة والثلاثين لاستشهاد شاعر الثورة والحياة ...علي فودة

والتي تصادف اليوم

كتب: سليمان زهيري

قرية قنير العائدة , وطن الشاعر علي فودة

قرية قنير المُهَجَّرة والمدمرة  بابنائها وشجرها ومواشيها وطيورها و تنوع فصولها  قد لا تكون معروفة لِأحدِ في أقصى الغرب ، اوفي أدنى الشرق، ولكنها كمثل اي قريه ريفية وادعة هادئة  كانت بيوتها  تتشبث بالارض الطيبه وتشد بعضها ازر بعض.. فهي النموذج الحي للقريه الفلسطينيه بجلالها وجمالها  وبهاء شمسها وضيائها وخضرة حقولها  ورائحة خبزها وصفاء مائها  ونقاء  هوائها وزرقة سمائها وسحر ليلها و تلأليء نجومها . كانت تضم بين جنبات بيوتها شباب متقدين بجذوة آمال عريضه لا تخبو , وشابات تتوشح بوهج نور احلام لا تنطفيء ,  ورجال بعزيمه لا تكل و نساء بهمه عالية لا تمل..

كانت قرية قنير الحيفاوية - مثل شقيقاتها من قرى فلسطين - .. تنتشر على جنباتها البساتين والمزارع ذات الطبيعه الساحرة , وتحف دروبها الاشجار الوارفة  كالسنديان والبلوط والكثير من عرائش العنب  التي تستظل بها البيوت الطينية العتيقه..  وتتحلق حول  ينابيعها و ضفاف اوديتها الاعشاب ذات الازهار الجميله .. وكانت في  الغالب تنام  بعد العشاء غارقه في الظلام الساحر , فلا تسمع فيها الا صدى السكون او نباح كلب او ازيز صراصير الليل او ضحكة  مكتومة  او همسا خافتا  او دعاء من تجافى جنبه عن المضجع فقام الليل متهجدا ومستغفرا .. فالسمة الغالبه على اهل القريه هي الفلاحة.. وبوصلة الفلاح الفلسطيني  تؤشر دائما الى الحقل الذي يسري اليه مع عناق القرية لاول خيوط الفجر بعد ان ودَّعت اخر رمق من  هزيع الليل ,

في هذه القريه  وعلى بوابتها الغربيه,  في على البوابة الغربيه لقنير شجره بلوط ضخمه تتوسط البيادر  ,, لقد شهدت هذه البلوطة في الفاتح من نيسان بكاء الحياة الأول الذي رافق ميلاد شاعر عظيم اسمه علي فودة، نام علي تحت ظل بلوطة جدة  في مهد خشبي متواضع وهو ما زال بأشهره الأولى أثناء انشغال والديه في أعمال الحصاد على بعد أمتار منه في نهاية ربيع عام 1946م، وفي موسم الحصاد التالي ستحمله أمه إلى ذات المكان وقد بدأ يخطو خطواته المتعثرة الأولى، وسيبقى يلعب تحت ظلها حتى يغلبه النعاس فيغفو، بعد أن تلفح محياه الغض نسمات منعشة بحرية المنشأ عليلة رطبة تهب غربية،،، وبكل تأكيد لن يحالفه الحظ للاستمتاع باللهو واللعب في موسم الحصاد القادم... فلم يكد يفتح عينيه  على عوالم قنير ومعالمها ولم يكد يحفظ وجوه اطفاها ولم يكد يتقن لفظ اسمها حتى حلت به وباسرته وابناء قريته وشعبه ام النوازل وافظع النكبات  بعد عامين من مولده، فاقتلعته وزلزلته وهو طفل رضيعا والقت به في مهاوى الغربة واتون اللجوء  لتزداد غربته الما وقسوة بوفاة والدته منبع العطف والدفء والحنان..لقد امضى ربيعين من عمرة و لن يكتب له العيش فوق أربع وثلاثون ربيعا أخرى، والتي سيقضي معظمها في خيمات النزوح ومخيمات البؤس واللجوء حيث تقوده الأقدار إلى الأردن ثم العراق قبل أن ينتهي به المطاف فيستقر في بيروت، فيترجل الفارس البطل هناك ليسقط شهيدا في سن السادسة والثلاثون.

 لقد نجا علي من مجازر التطهير العرقي وهو رضيعاً لتلاحقه طائرات الحقد والبغي الصهيونية إلى بيروت وهو في ذروة الشباب وعنفوان الثائر وجرأة الشاعر وصلابة المقاتل، حيث استشهد وهو يحمل صحيفة الرصيف التي كان يحررها.

لقد تعلق قلب الفدائي الملهم , شاعر الثورة والحياه , بقريتة قنير  وعشق وترابها وشجرها وطيورها وطرقاتها.. فقال وهو يصف قنير:

فلسطيني...

بلادي جنة الدنيا

قناديل الحياة

آهٍ, و " قنير"  الصبية قريتي

خالٌ برأس الخدّ مشهود الصفاتْ

الارض فيها واحةٌ

والعشب أغنية الرعاة

والنسر فيها يسمع الحسُّونَ

والعقاب تسرح والقطاه

اطفالها سود العيون, ويعشقون الارض والثمرا

ودنيا الليل والقمرا:

ويهوون القراءة والكتابة والاقاصيصا

وقرآناً وانجيلا

ورباً ينزل المطرا...

 لقد عشق  قنير حتى غازلها كحبيبة ابتعد عنها قهراً وظلماً وإجباراً , فبكاها ورثاها وحزن حزنا شديدا على فراقها , فكان لقنير حضورا لافتا في حياته ساهم الى حد كبير في تشكيل وعية وبناء شحصيته ولربما ساهم ذلك باختياره درب الكفاح وطريق النضال وسيلة للتعبير هن هذا الحب الروحي السرمدي والارتباط الجسدي الازلي ..  فقال في وصفها اعذب الاشعار وبكى على فراقها بكاء مرا وتمنى العودة لترابها لو ميتا يدفن تحت ثراها ليعانق جسده جذور اشجارها , فقال:

قريتي كانت مع الزيتون تبكي للزغاليل وأبراج الحمام

وتقاسي من خريف الشمس فيها

وخفافيش الظلام

أنت الازهار تغتال الندى في قريتي

- من غريب حط فيها- فأحال الورد شوكا

وقلوب الناس غارت في الحطام

شقشقات الطير باتت كالنعيق

وفروع التين والخروب باتت في الركام

وعيون الشر ما نامت

وما نام نداء الناس من أجل السلام:

......

......

آه يا "قنير"، يا حبي الكبير

آه، اني ابنك المغدور، لكن لن أبالي

و"قفا نبك..." على الأطلال ليست شيمتي

والغدر والنسيان ليست من خصالي

فأنا باق مع الاشجار والاطيار، كالنسر على صدر

الرياح

باق أنا فوق الجبال

بيدي الموت: مهري ثم قلبي والسلاح!

منذ صباه تعلق قلبه  بحقيقة العودة لقرية قنير موطن الاجداد في الماضي والاحفاد بالمستقبل ...  للمدرسة , لخروبة جده  لبئر الماء والجدول..  لطين وشجر وطير الحقل , للمحراث والمعول..للطيون للدفلى للعوسج,  لسنابل القمح تغازل المنجل ..  لقد كبر ونضج وثار في وجه الطغيان وبدأ يقرض الشعر فأتقنه وبرع في بعث الحياة في الحروف فأبدع اروع الروايات  وخط اروع القصائد وكتب كلمات اعذب الاغنبات .. فقال في شوقه لتراب الوطن المسلوب  :

وطني ..
قلبي يناديك وصوتي 
وأخي في ديرة الأغراب يبكيك وأختي
من عيون الموت في تلك البلاد
من بوار الأرض فيها
من أناس فقدوا الحس فباتوا كالجماد
وطني ..
أواه يا أحلى وطن 
لو يغطينا لحاف واحدٌ يوماً 
فَنُنْفى في السرير 
لو يرى النور الضرير 
لو تراني وأراك 
آه ما أحلى صباك
وطني 
كم أنت وفيٌّ يا وطن 
و أنا كنت، وما زلت وفيّا 
فأنا كالعهد فيّا 
أبداً ما زلت أفديك طفلاً 
وصبياً 
وعجوزاً سوف أفديك 
فأنت الأهل والخلان في قلبي اليتيم 
أنا مفتاح لقيدي 
و أنا العبد الذميم 
أنت كل الناس عندي 
أنت في لحمي ودمي 
وطني .. 
 
بأبي أنت وأمي

لم يكن اللجوء من قنير  في شعر علي مجرد فصلا في رواية عاطفية ولا حلقة في مسلسل درامي او مشهد في فلم خيالي , بل تناول النكبة واللجوء  على انها الرواية الحزينة برمتها والمسلسل بكل مساحته والفلم المستمر بكل احداثه .. يراه العالم - اشقاء واجانب , عرب وعجم -  في نهارهم وليلهم  وحتى في احلامهم بكل الوان الطيف منذ سبعون عاما ولم يحرك ذلك في وجدانهم ساكنا..

فضاقت في عيني علي حياة اللجوء وبؤس النزوح والوقوف في طوابير طويلة امام خيم الاغاثة في مخيم نورشمس  لتناول وجبة طعام او كأس حليب مجفف..  فكان يعتبر اللجوء عار ,  حيث قال:

أخي.. قُلْ ما تريد : انا الغريب انا الشريد أنا

انا رب اللصوص اذا اردت وسارق المنبر

أخي.. قل ما تريد : انا الجبان انا الضعيف انا

فقلبي دائماً اكبر

من الكلمات والشكوى

فقُلْ .. قلْ كيفما تهوى

انا اطهر

وسمعة قريتي أروع

اتعرفُ قريتي؟

" كلاّ " إذن فاٌسمع:

انا من قرية لا تعرف الغرباءَ

والانذال والجوعى

ولا الجبناء تعرفهم

ولا الأذياب في المرعى

وأنت .. وأنت منذ الان ضيفي

اه لو تنزل بنا ضيفاً

إذنْ فالليل قنديلٌ بِوادينا

وفي " قنير " أعراس اللقا صيفاَ

.......

ولكني اخي في العارْ

كما تعلم ..

غريب الدّار

*****

انا من أُمّةٍ تدري

بأن القيد يَصْدأ فوق أيدي العبد ان لم يكسر القيدا

وتدري ان للبارود كبريتاً يُفجِّره

وأن السيف دوماً رائع النبضات يفهم حدّهُ الردّا

انا من أمةٍ ايامها تشهد

مفاخرها

وعهد النصر في تاريخها يشهدْ

فمدّوا يا أحبائي اياديكم

لِتُنْزَلَ جثة المصلوب في المعبد

وندفنه

لعل الروح قد تصعد

لاتلوا  أية فيكم

وعهد الله  والزيتون يا "قنير " إنَّ دمي

سيروي الجرح حتى تزهر الصلبان من حممي

لأطمس غربتي في ذمّة الزمنِ

وأعدو ثم أعدو  ظافر القدمِ

الى الوطنّ ...

الى الوطنِ ..

.......

ولكني اخي في العارْ

كما تعلم ..

غريب الدّار..

لم يتعامل علي مع مسقط رأسه "قنير "  كحيز جغراقي معزول عن باقي مكونات واجزاء  الوطن, انما وجد فيها الجزء الاصيل الذي يعكس انتمائه الوطني وكيانه الانساني , ليُعَبِّر من خلال تعلقه بقريته عن حبه لوطنه وترابه المقدس واستعداده لبذل روحه رخيصه في سبيلة . فتغزل بكل تفاصيل الوطن , بهوائه ومائه وشجره وطيوره وكرم اهله وبديع فصوله, وروعة تضاريسه , فاعلن تقديسه لسهوله وجباله وتلاله واوديته وسحر نسمات فجره.

فكانت " قنير " على الدوام تمثل - في شعره وخياله - النافذه التي يطل من خلالها على ربوع الوطن ويناجي عبرها بلدات فلسطين باشجى الالحان ,  فنظم اروع القصائد واجمل الأغنيات تعبيراً عن شوق مزلزل لثرى الوطن,  ومطلقا العنان لعواطفه الجياشه لترسم الارادة الصلبه والعزيمة القوية للاستمرار على درب النضال والكفاح تجسيداً لحق العودة للديار كهدف قريب المنال .لقد  نقش حروف قصائده بالنور والنار على صفحات الزمان  , حيث اعلن فيها عن نيته  الاتحاده والالتحام جسديا وروحيا وفكريا مع تراب  الوطن  – حبا وطواعيه - , ليبقى قلبه -  دائم الخضرة وان بان في عينيه الأسى  - , فتحققت اميته في بيروت - العزه والبطوله – فتخلد شهيدا محلقا فوق ذرى المجد   - سرا وعلانية- ,  فحفر اسمه عميقا في ذاكرة الاجيال , ورسم بفلسفه الرفض والتحدي,  معالم درب  العزة والشموخ والاباء  لقوافل الثوار , فحفظوا عن ظهر قلب كلماته ,وبرعوا في استخراج الحِكَمَ الثورية من  ايماءاته فساروا على هدي ترانيم قصيده  , ولميكن   الشاعر الكبير مرسيل خليفه استثناءً, فلم ينتظر طويلا قبل ان يغني رائعته التي ملأت الارجاء صخبا وثورة و – رشاش عنف وغضب- :

أني اخترتك يا وطني

إني اخترُتك يا وطني 
حُبّا وطواعية 
إني اخترتك يا وطني 
سِراً وعلانية 
إني اخترتك يا وطني 
فليتنكّر لي زمني 
ما دُمْتَ ستذكُرني 
يا وطني الرائع يا وطني 
دائمُ الخضرة يا قلبي 
وإن بان بعَيْنَيَّ الأسى 
دائمُ الثورةِ يا قلبي 
وإن صارت صباحاتي مَسا 
جئتُ في زمن الجزْرِ
جئت في عز التعب 
رشاش عنف وغضب

 

صاغ اجمل قصائده   في ساحات الاشتباك الملحمي وميادين البطولة والفداء  وفي خنادق الصمود والتحدي في بيروت تحت جحيم المدافع و نيران البنادق.. يتدفق من نبع قصائده ونصوصه تفاصيل كل مراحل الثورة الفلسطينية الخالدة ويحولها الى صور شعرية جميلة حية ومدهشة.. توقع الاستشهاد فرحب به  , استشعر الغدر  ولم يأبه , تنبأ سوء  المآل ولم يتراجع, فقال في قصيدة دم الشاعر:


أمهلوني قليلاً.. ألا تستطيعونْ؟
مُصّوا دمي ..
إنّما قطرةً قطرةً 
علّني أشهد البرق وهو يُغنّي 
بمرج ابن عامرَ أو في الجليلْ 
بعدها ..
فلأكنْ أوّل الشهداء وآخرهم 
ولأمتْ في البراري قتيلْ !
****

أمهلوني قليلاً.. تعبتُ 
فها هو سهمٌ بقلبي 
وسهم بساقي 
وسهم هناك وسهم هنا 
آه.. كيف اختلفنا على ذلّنا؟ 
كيف باشرنا الدخول، الخروجَ -
وكيف ابتدأتمُ مُطاردتي؟ 
كيف كانت بداية رجمي؟ وفي أيّ عاصمةٍ؟ 
أيّ دغلٍ؟ 
وأي القبائل قد حاصرتْني؟وأيّ القبائل قد ناصرتْني؟ 
كأنّي عميتُ ..
كأنّي نسيتُ الذي ليس يُنْسى 
كأني شُفيتُ من الطعنة الحاقدهْ 
إنما.. آهِ كم أشعر الآن أني غريبٌ 
عن اللهجة السائده 
آه.. كم هي قاسية هذه اللحظة الفاسدهْ 
فالبناديق يأتمرون بأمر الصناديقِ 
ينهونَ أو يأمرونَ 
وقد يَعزلونَ 
وقد يَقتلونَ وقد ..
يا بلادي الحبيبة.. انهم السمّ في المائدهْ 
وفواتيرهم أبداً ..
تطلب الفائدهْ !
****

أمهلوني قليلاً.. فلي بينكم وردةٌ 
أحمرٌ، أحمرٌ، أحمرٌ لونها 
أرأيتم دمي.. نازفاً تحتها 
نازفاً فوقها 
نازفاً حولها 
أرأيتم؟ 
إذن أمهلوني قليلاً ..
ألا تستطيعونْ؟ !

 

 

لقد تمنى على  بأن يدفن في مسقط رأسه قنير .. هناك في مقبرة القريه التي تقع   على بعد امتارا قليلة  الى الشرق من شجرة البلوط الشامخة  بعظمة وبهاء و عنفوان  في ارض جده على البوابة الغربيه لقرية قنير , وكأنها تنتظر طلائع الاهل  العائدين طال الزمان ام قصر.. في قصيدته " فلسطين امي " ,  نادى لحشد السواعد  وناشد الضمائر الحية  واستنهض الأمة العربية   لاطلاق ثورة عارمة يفجرها كافة فئات الشعب وفي مقدمتهم العمال والفلاحين  لتقود جموع العائدين الى ديارهم  حيث  قال:  

بعيداً عنك يا " قنير " إني لم أنَمْ ابداً

ولم أحلمْ

فعمري كله سقرُ

وفي الاسفار لم أنعمْ

فمن قُطْرٍ الى قُطْرٍ

أسوحُ  أسوحُ في الارض الخراب - كنملةِ عرجاءَ -

قد أُعدم

مع الغربان قد امشي مع الجرذان والديدان والثعلبْ

فصاروا كلهم صَحْبي ... وما أشأم !

أيا ربي..
حرام أن أموت بغربتي فارحم,
وخذني حبة القمح التي بحواصل الأطيار قد نامت
وفي قنيّر وادفني
فلن أندم

وخذني نسمةً في العصر صيفيّة

تمرُّ بسطح منزلنا

تصافح ثوب أمي من على حبل الغسيل وشالها الاحمرْ

ومنديلا لجارتنا

وسروالاً وكوفية.

وخذني وردة ً بيضاء جورية

تدغدغ قلب عاشقةٍ

فيزهر حزنها شوقاً لأمسيّة

مخبأأة بجفن الهر منسية

وخذني في سلال التين والعنبِ

كأوراق بسطح السلّ مَرْميّة

وخذني روعة الغضبِ

من العمال في المصنعْ

من  الفقراء في النُوَبِ

وخذني لقمة الرشّاش والمدفعْ

فلن أدمعْ

ولن أشكو من التعبِ

فذاك دواء دائي .. آهِ ما أنجعْ !

وخذني شهوة النيران للحطبِ

تثورُ تثورُ لا تسمعْ

وتوقدُ  ثورة العربِ

فجاءت  ارادة الرحمن لتحقق نبوؤته فيرتقي شهيدا بشظايا صاروخ  غدر صهيوني  ليظل حيا فينا ينتظر معنا لحظة التحرر والانعتاق, اصطفاه المولى شهيدا ليبقى حي لا يموت يحثنا على النضال اذا خبت جذوة الامل  فينا   ويدعونا  للاستمرار حتى العودة  اذا تعبنا  ويذكرنا  يحتميه انتصار المظلومين اذا ضعفنا .. لقد ااصيب بجرح قاتلة من طائرة  صهيونية غادرة .. لقد اصيب بشظية اسكتت معها ثورة بركان عطاء فدائي , وحرقت حدائق ابداع ثوري,  ومزفت رئة تنفست يوما من هواء قنير .. لقد تنبأ بمصيره وتفاصيل نهايته فقال:

"فلتذكروا يا أصدقاء

فلتذكروا حين تمرّ الذكريات

بأن ثائراً

عاش غريباً، وغريباً مات

تذكريه يا فلسطين

...

ولتذكروا يا أصدقاء

بأنه كان يحبّكم

يحبّكم يحبّكم حتّى البكاء

ثمّ قضى

فلتشهد الوردة والطلقة والسيدة العذراء

والدم في الحقول/ والنجم في السماء".

وقد وصف الروائي المبدع إلياس خوري في روايته " ياب الشمس " اولى لحظات وصول علي الى المشفى مدرجا بدمائه حتى ارتقى شهيدا ، حيث قال:  

" أذكر أنه جاء جريحاً إلى المستشفى ، جلبوه مع جريح آخر، وكان الدم يغطيهما، الجريح الأول كان شبه ميت ، ودمه متجمد على جسده اليابس. لا أعلم من كشف عليه وأعلن وفاته . فتمّ نقله إلى براد المستشفى تمهيداً لدفنه . ثم اكتشفوا أنه حيّ، فنقل على عجل إلى غرفة العناية الفائقة، وهناك اكتشفنا أنه كان شاعراً. الصحف التي صدرت في بيروت أثناءالحصار ، نشرت عنه المراثي الطويلة. وعندما استيقظ الشاعر من موته،وقرأ المراثي شعر بسعادة لا توصف . كان وضعه الصحي ميؤوساً منه، فقد أصيب في عموده الفقري و تمزقت رئته اليسرى، لكنه عاش يومين، كانا كافيين كي يقرأ كل ما كتب عنه، قال إنه سعيد، ولم يعد يهمه الموت، فلقد عرف اليوم معنى الحياة، من خلال الحب المصنوع من الكلمات. كان علي - وهذا هو اسمه - الميت السعيد الوحيد الذي رأيت في حياتي كأن كل آلامه امّحت. عاش في سريره، وسط أكوام المراثي، يومين جميلين، وحين مات، كان كل شيء قد سبق أن كتب عنه، فنُشر نعيه الثاني في أسطر قليلة في الصحف".

هكذا كانت صورة مولد وطفولة وصبا وشباب وموت علي, انها تلخص  قصة حياة الفلسطيني االمنكوب  من لحظة ولادته حتى مماته .. انها تصورير حي  لحياة الشعب الفلسطيني قبل النكبة وابانها وبعدها , لم يدع الاحتلال الاستطاتي فوارق بين ابناء البشعب الفلسطيني المنكوب  لا  باللون او الجنس او السن اوالعرق او الثقافة او الدين , لقد كان عادلا في نشر شرة وفظائغه على جميع الفلسطينيين المنكوبين بالتساوي  فمارس في اقتلاع شعبنا من ارضه  كل  اشكال الظلم والقمع والعدوان على الجميع بنفس القدر وبلا استثناء وبدون تردد او استحياء..

ستبقى وصيتك بالعودة لقنير منفوشة على صفحات الزمان ومحفورة في الوجدان  لتحمل اجيال النصر رفاتك  الى قنير المستقر الاخير  .. فاطمأن يا فارس  الثورة ورسول الحياة, ستعود الى قنير لتتحقق امنيتك وتنفذ كلماتك التي خططها بدمك النازف من جراحك حيث قلت:

 ولكنا عرفنا

كيف نكتب بالدم الغالي وصايانا

وكيف ستزهر الاشلاء طوفانا...

بلادي موطن الطوفانِ

مقبرة الغزاةُ

الله ما أحلى الممات !

قنير يا قنير آت.. ألف آتٍ

رغم أنفاس الحياةُ..