أطلق مركز مسارات برنامجًا جديدًا تحت اسم “بدائل وخيارات”، يستهدف منه استضافة عدد من ممثلي الفصائل والحراكات والمجموعات المنتشرة في جميع التجمعات الفلسطينية داخل الوطن المحتل وخارجه، ممن يملكون تصوّرات حول البدائل والخيارات المفترض تبنيها للخروج من المأزق الشامل الذي تمر فيه القضية الفلسطينية. فلا يكفي لعن الظلام، ولا وصف الواقع المأساوي، بل لا بد من إضاءة شمعة، والسعي لبلورة حلول .

فعلى الرغم من بقاء القضية الفلسطينية حية بعد كل ما تعرض له الشعب الفلسطيني من أهوال وحروب ومجازر ودمار وموت وتهجير وتمييز عنصري، ورغم استمرار تواجد نصف الشعب الفلسطيني على أرض وطنه، في دلالة على أن الحركة الصهيونية هزمت لجهة عدم تحقيقها لمشروعها في تصفية القضية الفلسطينية وتفتيتها، فهي لم تستكمل تحقيق أهدافها، ويواجه كيانها الاحتلالي أزمات كبيرة ومتعددة، ورغم كل أشكال الصمود والمقاومة، التي كان آخرها أبطال نفق الحرية الذين فتحوا أفقًا جديدًا أمام الفلسطينيين بما يؤكد أن النصر ممكن إذا توفرت شروطه …. ورغم كل ذلك؛ فإن القضية الفلسطينية تتعرض لتحديات ومخاطر جسيمة، أبرز معالمها أن الاحتلال يتعمق، والاستعمار الاستيطاني يتواصل بمعدلات كبيرة، والانقسام السياسي والجغرافي، والأهم المؤسسي، يتعمق أفقيًا وعموديًا بما ينذر ببقائه وتحوله إلى انفصال، وأن مخططات التدمير الذاتي والخارجي مستمرة، ولعل ما جرى من بث للفتنة على إثر اعتقال محرري جلبوع من خلال الوقيعة بين الناصرة وغيرها، وجنين وغيرها، وبين الضفة وغزة، حتى ممن يرفعون يافطات وطنية وثورية ودينية؛ يدق ناقوس الخطر، قبل نجاح تصفير إنجازات الأسرى الأحرار .

وأخطر ما يواجهه الشعب الفلسطيني أن مشروعه الوطني ليس واضحًا، ومختلفًا عليه، إذ تنقسم الآراء فعليًا بين:

أولًا: من يريد إعادة إنتاج المجرب، والسير وراء إعادة إنتاج خيار أوسلو والمفاوضات، والرهان على الولايات المتحدة الأميركية وإمكانية حدوث التغيير في إسرائيل بما يسمح بقيام الدولة الفلسطينية لتجسيد ما يسمى حل الدولتين.

ويتمثل خطأ هذا الفريق في أنه يواصل طريقه وخياره رغم اعترافه بوصوله إلى طريق مسدود، بدليل أنه وافق على صدور قرارات عن المجلسين الوطني والمركزي تنص على ضرورة إعادة النظر في العلاقة مع الاحتلال والاتفاقيات المعقودة بين المنظمة وإسرائيل، ولم تطبق رغم مرور سنوات عليها، وتكرار الرئيس محمود عباس لتصريحات حول ضرورة حل السلطة وتسليم مفاتيحها إلى الاحتلال لأنها سلطة بلا سلطة، وأن الاحتلال تنكر للاتفاقيات، وإصداره قرارًا في أيار 2020 بوقف العمل بالاتفاقيات، ثم العودة عنه بعد ستة أشهر، في دلالة على فقدان الاتجاه، والشعور بالعجز، وعدم الإيمان بوجود بدائل وخيارات أخرى، بما يؤدي إلى التعايش مع الأمر الواقع الذي يفرضه الاحتلال، لتغدو السياسة الوحيدة العملية هي التعامل مع هذا الواقع، ومحاولة تحسينه.

وتجلّت سياسة الأمر الواقع في الرهان على إدارة بايدن رغم أنها مشغولة بملفات أخرى، وزيّنت اعتماد خطة “بناء الثقة”، النسخة الجديدة عن السلام الاقتصادي المتناسب مع إستراتيجية إدارة الصراع من دون السعي لحله، في نفس الوقت الذي تتواصل فيه سياسة إسرائيل الرامية إلى استكمال خلق الحقائق على الأرض، التي تجعل الحل الإسرائيلي بصورة أكبر هو الحل الوحيد المطروح والممكن عمليًا.

ويستمر هذا الرهان الخاسر والأوهام الضارة رغم أن تجسيد الدولة الفلسطينية وتحقيق الاستقلال الوطني بات بعد 28 عامًا على اتفاق أوسلو، على الأقل، أبعد عن التحقيق عما كان عليه الأمر قبل توقيعه.

ثانيًا: من يريد الحفاظ على سيطرته الانفرادية على قطاع غزة إلى أن تتغير الظروف والمعطيات، رهانًا على المجهول، أو على محاور وجماعات سياسية، وعلى متغيرات إقليمية ودولية يمكن أن تحدث، أو على إمكانية تحقيق وعد الآخرة بزوال إسرائيل العام القادم وفق النبوءة أو الصدف الرقمية التي انتشرت منذ ثلاثين عامًا.

وتكمن معضلة هذا الاتجاه في أن المتغيرات يمكن أن تأتي ونكون غير قادرين على استثمارها، ويمكن أن تزيد أمورنا تعقيدًا على تعقيد. فمن الصحيح أن منطقة الشرق الأوسط على موعد مع التغيير، وربما قد يصاحبه المزيد من الفوضى والعنف لأسباب تتعلق به، أو انعكاسًا لعملية التغيير الانتقالية التي يمر بها العالم، حيث العالم القديم الذي تقوده الولايات المتحدة ينهار، والعالم الجديد الذي سيكون متعدد القطبية وتلعب الصين دورًا كبيرًا فيه لم تتحدد معالمه بعد، وقد لا يحمل ثمارًا طيبة لنا، بل قد يكون على حسابنا إذا لم نكن مستعدين وفاعلين.

في الحقيقة، لم يعد لدينا منذ وقوع الانقسام برنامج مقاومة مثلما لم يعد هناك برنامج مفاوضات جراء طغيان الصراع على الحكم والسلطة والتمثيل والقيادة والقرار والبرامج الفئوية واقتسام المصالح وإدارة الانقسام على أي شيء آخر، بدلًا من الصراع لتجسيد المصالح الوطنية العليا والبرامج والخيارات الوطنية، إذ أصبحت المقاومة ليست جزءًا من رؤية وبرنامج متكامل، وأداة لخدمة هذا البرنامج، وإنما أداة لخدمة استمرار السلطة في قطاع غزة، وتنظيم علاقتها مع الاحتلال، ضمن معادلة تهدئة مقابل تحسين شروط الحصار، لدرجة أن بعض أنصار هذا الاتجاه يرون بأن الانقسام نعمة لأن خياري المقاومة والتسوية يسيران على خطين متوازيين لا يلتقيان، وأن دور الشعب الفلسطيني فقط هو إبقاء جذوة الصراع. أما برنامج العمل السياسي المشترك فهو مجرد تكتيك أو تجسيد للحد الأدنى الوطني، حيث لم نعد نعرف هل هناك قناعة بهذا البرنامج أم أن الموافقة عليه كانت مجرد تكتيك.

صحيح أن معركة سيف القدس أوجدت الرابط المفقود بين ما يجري في قطاع غزة والقدس وبقية فلسطين، وأن هذا تكرر بربط صفقة تبادل الأسرى بإطلاق سراح أبطال نفق الحرية، ولكن هذا لم يرتق حتى الآن إلى حد تغيير إستراتيجي لا عودة عنه، واعتماد مشروع وطني لتحقيق أهداف محددة، على طريق تحقيق الحقوق الوطنية، تترتب عليه إستراتيجية مقاومة شاملة، وإنما ظهر كردة فعل على إلغاء الانتخابات، كما يظهر في أن المفاوضات التي تدور منذ سكوت الصواريخ في أيار الماضي حول عودة الأمور في قطاع غزة إلى ما كانت عليه قبل معركة سيف القدس، أي تصفير الإنجازات الكبيرة التي تحققت.

لا يمكن الابتعاد عن المشاريع الفئوية وإعادة الاعتبار للمشروع الوطني من دون وضع هدف إنهاء الانقسام على رأس برنامج أي فصيل، أو مجموعة، أو حتى أفراد، تدعي أنها تناضل من أجل تحقيق أهداف وطنية، بحيث لا يتم التعامل معه كشعار بعيد التحقيق، وإنما من خلال تجسيده بشكل دائم على الأرض.

ولا يقتصر الكفاح من أجل الوحدة الوطنية باعتبارها قانون الانتصار على حوارات الطرشان والاتفاقات التي لا تنفذ، وإنما من خلال بناء بدائل وخيارات في إطار مشروع وطني يسعى لغرس نفسه في صفوف الشعب، بحيث لا يكون رهانه الأساسي على تحقيق الوحدة من فوق، وإنما على فرضها من أسفل إلى أعلى، عن طريق بلورة جبهة وطنية عريضة على أساس مشروع وطني متفق عليه، يتضمن الهدف الوطني المركزي لشعبنا، وهدف وأولويات كل تجمع، وكيفية وضع خطة للتخلص من اتفاق أوسلو الذي لم يعد موجودًا إسرائيليًا منذ زمن بعيد، وكيف نقاوم ومتى نفاوض، وكيف يمكن استنفار الشعب الفلسطيني في جميع أماكن تواجده؟

لا يجب تقزيم البرنامج الوطني ولا القضية الفلسطينية لتقتصر على الاستقلال الوطني للدولة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وإنما هناك أركان عدة لها، فلا يمكن استبعاد قضية اللاجئين وحقهم في العودة والتعويض وعيشهم في حياة كريمة إلى حين عودتهم، ولا استبعاد هدف المساواة لشعبنا في أراضي 48 كخطوة على طريق هزيمة المشروع الاستعماري الصهيوني الاستيطاني، وإنجاز الحل الديمقراطي على كامل أرض فلسطين .

هناك من يقول إن حل الدولتين مات، ومن يقول إنه لم يكن موجودًا أصلًا عند الحكومات الإسرائيلية، وهذا أصح وأدق، وهناك من يقول بأن لا بديل عن طرح حل الدولة الواحدة، وهذا حق قد يراد به باطل من خلال اعتبار الواقع الاحتلالي والاختلال القائم هو الذي يرسم خارطة الطريق الوطنية التي تنطلق من الواقع لتغييره، وتستند إلى الحقوق والأحلام التي لا تتغير وفقًا لموازين القوى، بل يعمل حاملو هذا الرأي لتغييره حتى يتحقق ولو استغرق الأمر عشرات السنين.

يدلّ الواقع الذي نعيشه على أن لا تسوية ولا حل للدولتين على الأبواب، فموازين القوى القائمة حاليًا لا تسمح بذلك، ولا إمكانية لإقامة دولة واحدة ديمقراطية لا ثنائية القومية ولا دولة لكل مواطنيها ولا إسلامية ولاغيرها، فما يجري سيادة دولة واحدة استيطانية عنصرية احتلالية، لا تريد تسوية تسمح بقيام دولة فلسطينية، ولا تريد ضم الفلسطينيين ليصبحوا مواطنين، بل تريد استمرار الأمر الواقع الحالي: إدارة الصراع أو تقليصه حسب آخر صيغة اعتمدتها حكومة نفتالي بينيت، إلى أن تسمح الظروف بفرض الحل الإسرائيلي، وهذا لن يتحقق إلا بتصفية القضية الفلسطينية من مختلف أبعادها، عبر طرد المزيد من الفلسطينيين من خلال “التهجير الطوعي” بجعل حياتهم في وطنهم أصعب، وحشرهم في معازل معزولة عن بعضها البعض، والتهجير القسري إلى الأردن على أساس حل القضية الفلسطينية على حساب الأردن، وإلى مصر عن طريق توسيع قطاع غزة على حساب صحراء سيناء .

نعم، تهجير الفلسطينين ليس أمرًا سهلًا ولا ممكنًا الآن، ولكن يمكن أن يصبح ممكنًا بعد 10 أو 20 أو 30 سنة إذا لم نغير ما بأنفسنا.

يمكن أن نسير في طريق يؤدي إلى زوال المشروع الصهيوني إذا سار الفلسطينيون وأشقاؤهم وأصدقاؤهم على الطريق الكفيلة بإيصالهم إلى تحقيق أهدافهم القريبة والبعيدة. والذي لا يستطيع إنهاء الاحتلال الآن – الهدف الذي يجد القبول والدعم من معظم دول العالم – فكيف يتصور أن بمقدوره إزالة إسرائيل، الهدف المرفوض من معظم دول العالم.

وأخيرًا، لا بد من الحذر من الوقوع في ثنائيات: إما المقاومة أو المفاوضات؛ إما الثورة والإسقاط والتغيير الجذري أو إصلاح تجميلي يغطي الوجه القبيح؛ إما “فتح” أو “حماس”؛ إما حكومة أو انتخابات؛ إما مقاومة مفتوحة وحل السلطة أو الانخراط في إدارة الصراع وتقليصه؛ إما الدولة الفلسطينية أو الدولة الواحدة؛ إما الانتخابات هي الحل والعصا السحرية أو الانتخابات للتغطية على واقع الاحتلال والانقسام.

هناك بديل وحتى بدائل تستند إلى رؤية شاملة تنطلق من الواقع وتسعى لتغييره، تجمع كل أشكال النضال والعمل السياسي كل في وقته وجدواه، وتسعى لإنهاء الاحتلال وتجسيد الاستقلال من دون التنازل عن الحقوق والأهداف الطبيعية والتاريخية. بديل يستند إلى برنامج وطني يجسد القواسم المشتركة، وإلى الشراكة من دون إقصاء ولا تخوين ولا تكفير، ومن دون استثناء أحد إلا العملاء. بديل يسعى لتحقيق أقصى تغيير ممكن في كل المجالات والتجمعات، وعلى مختلف المستويات والأصعدة، وتكون الانتخابات الدورية، وإنهاء الانقسام، وإعادة بناء مؤسسات المنظمة، وتغيير السلطة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، ومكافحة الفساد، وإقامة حكم رشيد؛ أركانًا أساسية منه.

وهذا البديل هو تغيير أكبر من الإصلاح وأقل من التغيير الشامل والجذري، ولكن ينقل الوضع الفلسطيني من حال إلى حال، وعندما يحين موعد الثورة والتغيير الجذري الذي لم تنضج شروطه بعد، فعندها تتغير قواعد اللعبة والصراع. أما انتظارها وعدم عمل شيء أو عمل أقل ما هو ممكن فهذا يساهم في عدم الوصول إلى الثورة والتغيير.