في حرب كان الانتقام عنوانها، أدركت امريكا وبعد عقدين من الزمن انها تواجه خصماً شرساً هو أشبه بالجمر تحت الرماد، جعلها تستشعر خطراً وجودياً هشّم هيبتها او كاد، لم تستطع معه ان تخفي شعورها بخيبة المسعى وبالمرارة التي سببها اخفاقاتها وانغماسها في حروب عبثية لا طائل منها، لافتقادها لربما للاستراتيجية اللازمة للقضاء على من هي في نظرها دول مارقة حاضنة للارهاب.
فالدولة التي تتوهم بأنه لا غنى عنها في العالم، تراها من اكثر الدول التي بدت لا تريد الذهاب بالملفات العربية الى اقصاه، واخص بالذكر هنا افغانستان عند منعطف قد تنعدم عنده التسويات وتهوى، بعد ان باتت غارقة في الصورة التي لطالما رسمتها لنفسها وللآخرين، تلملم ما تبعثر من كبريائها وتحطم على أعتاب دول استحالت ساحة مشرعة لتصفية الحسابات بدعوى الحرب على الارهاب !
مما أوجب الإسراع بفرض الحلول على الارض، كان أصعبها وأشدها وطأة عليها هو الانسحاب، سعياً لانتشال ذاتها من وضع مأزوم سياسياً ناجم عن عجزها عن الوفاء بالتزاماتها بالقضاء على التنظيمات الارهابية والقدرة على الانتصار والردع وأخلاقياً باعتبارها وكما تروج هي عن نفسها من اكبر الداعمين لحقوق الانسان، والراعي الحصري له.
فعلى قاعدة ما تريده واشنطن ليس بقدراً محتوماً ...تعود الى الواجهة طالبان معززة مكرمة بانتصار يكاد يعانق عنان السماء و امام اعين المحتل، وكان الزمن قد اخذ مساراً دائرياً ليخبرنا بأن دوام الحال من المحال، فيعود من حيث بدأ..!
فلم يكن وليد الصدفة لربما وبعد عشرون عاماً وفي مشهد هو بعض من سخرية القدر، ان يخرج من كان محتلاً غازياً بالأمس تحت حماية المنتصراليوم بعد ان انزله عن شجرة العنجهية وزوده بما يلزم من سلم، فيعود كل شيء الى بدايته.. امريكا الى بيتها وطالبان الى الحضن الافغاني والحلفاء الى ديارهم ...فقد تعجز وربما تكون على خطأ ان اعتقدت ان ما قد حل بسيدة العالم لم يكن بهزيمة في الوقت الذي تغيرت فيه مفاهيم الانتصارعما كان دارجاً قبل هذا الانسحاب، فلدى امريكا من المنطق ربما ما يجعلها ترى الانسحاب والهزيمة معنيان مختلفان منفصلان و مفصلان على مقياسها، فتراها تحاول جاهدة باقناع نفسها ما قد عجز العالم عن تصديقه، مدّعيه ان النصرعلى اقل تقدير يكون لمن هو قادراً على انهاء الحرب لا الذهاب اليها...وهي ذاتها التي لم نكن لنعرف عنها انها تتراجع عن مواقفها او تقدم تنازلات او حتى تعترف بخطأ...! وهل كنا لنسمع عن امريكا تنسحب لو لم تكن تتخبط بين انكسار وانكسار تعد الصفعات...؟! فوفقاً لمعيار الهزيمة وميزان قواها وحتى تحقق نصراً على عدوك يتحتم عليه ان يقر بهزيمته تلك وان يترك السلاح والارض ويسلم كل ما يمتلكه لاصحاب الحق وهذا في حد ذاته كان كافياً لنقول ان ما شاهدناه بأم اعيننا كان هزيمة لامريكا وحلفائها ساحقة نكراء .
فوحدها الغطرسة حينها وربما قصر النظر هو من أجلس امريكا على فوهة البركان، بتدخلاتها العسكريه التي لا طائل منها، تماماً كما هو الحال على سبيل الذكر لا الحصر في ادغال فيتنام التي كانت بمثابة صرخة للاستيقاظ بعد ان كادت تفقد امريكا منصب الزعامة الدولية بعار ما زال يلاحقها الى الان، بهزيمة منيت على اثرها بما يزيد عن ثمانية وخمسون الف قتيل وخمسون الفاً بعاهات مستديمه وخسائر مالية اوشكت ان تقارب الترليون دولار، لتكرر الخطأ ذاته وكأنما كتب لها ان تمنى بهزيمة ثانية وثالثة بغزوها لافغانستان ومن بعدها العراق أولى محطات الانتقام لاحداث الحادي عشر من سبتمبر، اليوم الذي بدأ من عنده كل شيء، فهي لم تكن لتدري حينها انها ستغرق في تضاريس دول لطالما كانت تجهلها، وتركيبة قبلية لم تعهدها ومحاربين غير مألوفين لدى جيشها كانوا قد ورثوا الجلَد والاحتمال، فكنا نراهم يتراجعون حيناً ويقاومون في كل الاحيان، بالاضافه الى عدم قدرة الغزاة على التحمل والفرضيات الخاطئة التي أفقدتهم السيطرة على منطقة هي من اصعب مناطق العالم في وجه المحتل.
فما تسببت به تلك الحروب سيئة الذكر من قتل ولجوء وضياع كان خلفها اكاذيب ومبررات زائفة شكلت تربه خصبه للاخبار والشائعات والتي كانت بمثابة الطعم الذي ابتلعه العالم وصدقه بعد ان ألصقت بهما زوراً وبهتاناً تهمة اقتناء اسلحة الدمار الشامل والارهاب لتنتهي بهم الى دول لا تكاد تعرف نفسها بعد ان بعثرتهم الحرب قبائل وشيعاً واعراقاً، حروب مورست تحت مظلة الأمم المتحدة وسمعها وبصرها التي على ما يبدو كانت عاجزة عن لجم امريكا واعادتها الى رشدها فكانت "كمن شجع الظلم بالسكوت عليه " بعد ان تم تهديدها بتحييدها وتنحيتها جانباً في حال عارضت الحرب، ليكتشف العالم الذي يبدو حائراً اليوم امام سياسات واشنطن المتناقضة مارستها اثناء حربها على الارهاب وما صاحبها من اوصاف ديمقراطية لطالما كانت تنبع وفقاً للمصالح السياسية والتي هي في حقيقة الامر كانت مجرد ادوات استخدمتها لبسط هيمنتها على الانظمة وشعوبها، و بمثابة بضاعة رائجة صدرتها للعالم العربي على وجه الخصوص، بعدما روجت لها على انها الترياق الذي لا غنى عنه ضد الارهاب فكانت حرباً شرعية في زعمها مضت بغير رحمة، مخلفة دمار وخراب قد فاق الوصف والخيال، و لعل احد ملامح الحرب تلك و اكثرها خطورة هو اتهام الاسلام والمسلمن به وتصفية كل عمل خيري لمئات المنظمات الانسانية، تحت ذريعة تمويلها للارهاب، فكانا كلا من الديمقراطيه والارهاب مصطلحان مبهمان في قاموسها اخفيا خلفهما مئات النوايا والمبيتات، الا ان معناهما ظهرا جلياً عندما ادارت ظهرها للشعوب المغلوبه على امرها والتي دفعت وما تزال فاتورتهما ثمناً باهظاً من دماء ووأد للحقوق والحريات، في الوقت الذي ظهرعلى السطح ما كان يعرف بالربيع العربي الذي لم يكن ليمر بسلام، وقد تحولت الدول التي استنشقت نسيمه او كادت الى دول تذيلت قائمة الدول الغير قابلة للحياة، بعد ان رزح اهلها تحت خط الفقر نصيبهم منه شح الغذاء جوعى والحريات في اضيق تعريف لها.
ولم الاستغراب والتاريخ يؤكد استغناء واشنطن تحت شعار" امريكا اولاً" حتى عن الحلفاء بعد ان قطعت بهم الحبال بوعود ذهبت ادراج الرياح ليتدبركل واحد منهم امره بنفسه، والتي اعتبره كثيرون بمثابة طعنة في الظهر، فكان تمهيداً لوضع علامات استفهام حول فيما اذا كان الرهان على زعامة امريكا للعالم قد تساقط ام لا ....؟ في الوقت الذي استفاق الجميع على شرخ في العلاقات بين الدول الاوروبية والولايات المتحدة الامريكيه، لانزعاج الاولى من هذا الانسحاب فبعدما كانت امريكا في نظرها اكبر حليف جاد موثوق به تراجعت ازمة الثقة بينهما فباتت اوروبا ومعها اسرائيل محاطة اكثر من اي وقت مضى بمخاوف وهواجس خذلان اكبر حليف لهما، بعد ان بدا لهما جليا ان لا وزن لهم ولا قيمة مع حسابات المصالح الامريكية، فبدا العالم يتلمس تحول في منحنى ايمانهم بان امريكا هي اكبر امة على الارض، فلعلها بوادر خير قد بدات تلوح في الافق تشير الى البدء في التفكير في مستقبل لا تكون واشنطن جزءاً فيه....!