على الرغم من تراجع البعض وإنكار البعض الآخر المشاركة في الدعوة إلى التطبيع مع إسرائيل في مؤتمر أربيل، وكذلك إدانة واستنكار من قبل المؤسسة الرسمية والشعبية والحزبية وعموم الحركة الوطنية العراقية بشتى مسمياتها لهذا المؤتمر ومخاطر ما تم تداوله فيه، فرغم ذلك فإن هذا المؤتمر يؤشر إلى أحد أهم استهدافات المشروع الصهيوني والدولة العبرية في عموم المنطقة العربية، وذلك في سياق ما يسمى «استراتيجية الأطراف»، هذه والتي لا تزال تعمل بلا كلل وبأساليب مختلفة في المنطقة العربية جاءت لتستكمل بناء مقومات المشروع الصهيوني. فقبل قيام الدولة العبرية عام 1948 أي بناء البنية التحتية للدولة المرتقبة حتى قبل إعلانها تم ذلك من خلال محاور ثلاثة، المحور التقني لتأسيس جامعة التخنيون للهندسة المتطورة والتي مهّدت لبناء مؤسسة للتصنيع الحربي، وذلك عام 1924 في مدينة حيفا، ثم المحور المعرفي بتأسيس الجامعة العبرية عام 1925 في القدس، أمّا المحور الثالث فيتعلق بجوهر الدولة العبرية وهو الأرض والاستيطان، وهو المحور الذي تم تأسيسه قبل المحورين الآخرين، فنشأ مجتمع الكيبوتس الاستيطاني لإنشاء مجمعات تشاركية منتجة، لذلك فإن تاريخ تأسيس الدولة العبرية ليس هو تاريخ الإعلان عنها.

إلاّ أنّ هذه المحاور الثلاثة لم تكن كافية وحدها إلاّ لإطلاق المشروع الصهيوني وبناء الدولة وإعلانها، إلاّ أنّ المطلوب هو استمرار وديمومة هذه الدولة خاصة وأنها قامت في وسط محيط معادٍ لها بالكامل، هذا المحيط قام عام 1948 بمحاولة منع قيام الدولة إلاّ أنه فشل في ذلك، الأمر الذي أدى إلى إحساس إسرائيلي منطقي أنّ هذا الفشل لن يمنع بالتأكيد تكرار الحرب معها في المستقبل أو هكذا افترضت القيادات الإسرائيلية، من هنا جاء الوعي الداخلي الإسرائيلي بأنّ الانطلاق في الإعلان عن الدولة يتطلب بالضرورة ضمان استمرارها، وهذا لا يتطلب فقط الحصول على القوة العسكرية، فالتعامل مع هذا المحيط يتطلب استراتيجية مختلفة فكانت «استراتيجية الأطراف» التي أعلنها أول رئيس للحكومة الإسرائيلية بن غوريون والتي تتعلق بدور إسرائيلي للتدخل بوسائل مختلفة، على رأسها الوسائل الاستخبارية في العملية السياسية داخل كل بلدٍ عربي، ما يعني تهديد الأمن القومي العربي في الصميم، وذلك من خلال اثارة النعرات الطائفية والعرقية وإحاطة الدول العربية لتحالفات مع الدول غير العربية المجاورة لها لكي تحاط المنظومة العربية بمحيطٍ معادٍ كما هو الأمر مع إسرائيل، وهنا سنقتصر الحديث حول الجبهة العراقية في مقاربة مع مؤتمر أربيل.

إنّ قيام حلف بغداد والذي ضم كلاً من العراق وتركيا وإيران وبريطانيا وباكستان وكان الهدف المعلن منه باعتباره واجهة ضد ما يسمى المد الشيوعي، إلاّ أنّ إسرائيل استغلت هذا الحلف مباشرة من خلال أجهزتها التجسسية ومن خلال حلفائها وكلهم من أصدقائها في سياق استراتيجية الأطراف، ولكي توجه بوصلة الجهد العربي بمجموعة ضد ما يسمى بالخطر الشيوعي دون التفات أن إسرائيل هي مصدر الخطر وليس غيرها، لكن مع انهيار هذا الحلف إثر الثورة الوطنية العراقية بزعامة عبد الكريم قاسم عام 1958 ركزت الدولة العبرية للاعتماد على أجهزتها الأمنية وعقدت تحالفات كان أهمها تلك التي عقدتها مع بعض القيادات الكردية، وكان أبرزها مع مصطفى البرزاني عام 1963 الذي أرسل مبعوثاً منه للاجتماع مع بن غوريون إثر زيارة قام به رجال الموساد له في حزيران من نفس العام، حيث أقام هؤلاء أوّل محطة للبث الاستخباري في كردستان العراق، فيما بعد تم إرسال بعثة عسكرية إسرائيلية لتدريب المقاتلين الأكراد «البشمرقة» وذلك بهدف تعزيز قدرات على المواجهة مع الجيش العراقي ولإشغال هذا الجيش وإنهاكه في حربٍ تغطي على الحرب الحقيقية المفترضة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.

لذلك لم يكن مستغرباً أن ترتفع الأعلام الإسرائيلية أثناء الحملة الكردية للاستفتاء حول الانفصال عن العراق عام 2017، فقد كانت إسرائيل موجودة بشكلٍ فاعل في كردستان العراق وتزايد هذا الدور بعد قرار الحظر الجوي على شمال العراق عام 1991.
إنّ مؤتمر أربيل لا يعكس بطبيعة الحال الموقف الوطني والشعبي من القضية الفلسطينية بأي حال من الأحوال، ليس فقط لأن هناك مقاربة متشابهة بين الحالتين الفلسطينية والكردية، بل لأن الثورة الفلسطينية ضمت في صفوفها عدداً من المناضلين الأكراد الذين ساهموا في المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، كما ساهموا في تعزيز البناء الموازي للثورة الفلسطينية المسلحة في مجالات الإعلام والثقافة، هؤلاء هم الذين يمثلون الشعب العراقي الشقيق بمن فيهم الأشقاء الأكراد.