أمران ما زالا يلحان عليّ، هما أولاً: التاريخ العام والخاص ودراسات المكان من جغرافيا متنوعة وغيرها، وثانياً: تاريخ الأدب، وعلاقة ذلك بالتعليم وإنتاج المعرفة، والتفكير النقدي. وسنقتصر في هذه المقالة على القسم الأول.
أما التاريخ، بما يتضمن تاريخ كل فرد فينا، وصولاً للكون، الموثوق به والمشكوك، أو قل المكتوب ضمن ظروف متنوعة، فهو ليس مطلقاً، ولا ينبغي تعليمه كأنه من المقدسات. فكما أن هناك تطورات وتحديثات تصيب العلوم والآداب، فالتاريخ ليس استثناء. وبالطبع ليس من الملائم الانتقاء، بما يتفق مع أحكام مسبقة ومصالح، بمعنى علينا أن نحرر التاريخ منا، فلا نجبر أنفسنا والآخرين على طريقة أحادية، وطبعاً لا يعني ذلك مثلاً -كما قد يساء الفهم-أن يتم الانتقاص من التاريخ الموضوعي نفسه.
كيف نعلم الصغار التاريخ؟ وكيف نعلمهم والكبار الفهم والبحث في التاريخ؟
يبدأ التاريخ بالنسبة لهم، مع تاريخ ميلادهم، بما مرّ من مراحل نمو ووعي، وصولاً للحظة الراهنة، كذلك تاريخ الأسرة، والمحيط، بمعنى أنه من الضروري إيصال معنى التاريخ ومضمونه، بما يتفق مع المرحلة العمرية، بطريقة غير مباشرة، ويتضمن ذلك وصف المكان: المنزل، المدرسة، الحيّ، البلدة والمدينة والمخيم. وهنا تبدأ اكتشافات الطفل فالفتى، وتنظيمها ضمن منهج، فثمة سردية له، تستند أولاً لبدايته رضيعاً/رضيعة في الحياة، كما تستند للأسرة، فالمحيط، وهكذا.
هنا، يبدأ الطفل لا بالمعرفة بحدّ ذاتها، فهو لا شك يعرف أجزاء مما نتحدث عنه، بل يبدأ هنا تعلم السرد، والوصف، حيث تبدأ عملية التدقيق والتأريخ. وهنا يبدأ هو، وهم، وأولئك، بمعرفة موقعهم في عالمهم الصغير، ومكانهم الخاص. وهنا سيبدأ الطفل بالعودة مثلاً إلى روايات الأهل، وما توفر من وثائق وصور، وقد تظهر عنده أكثر من رواية عن الحدث نفسه، فيستمع غير مقرر ما هو الأدق، فيتعلم أن التوثيق أمر مهم، وأن البشر معرضون لنسيان التفاصيل.
وباعتبار أنه ومحيطه جزء من زمان ومكان أكبر، تبدأ عملية ذكية في توسيع نطاق البحث، في ظل إثارة تشويق الطفل، عن علاقة الأمكنة التي يتنقل فيها يومياً، أو موسمياً، ناظراً لما حوله من بلد كبير، وعالم واسع، بل وكون غير متناهٍ.
هي سردية قصصية روائية، تحفزنا لها حياتنا الآن، فبالنسبة للطفل هنا في بلادنا، فإن ولادة الأسئلة التاريخية معه سرعان ما تظهر، حيث يبدأ بملاحظة الصراع هنا، وآثاره على نفسه وعائلته، تماماً مثلما تظهر الأسئلة في ظل أي نزاعات شخصية واجتماعية.
وهنا، سيتشوق لمعرفة تاريخ مكانه، التاريخ الجمعي، وتاريخ هذا الصراع، وهو صراع طويل ودموي، ما يزال يعرضنا للأذى، وليس فقط للغضب ومشاعر أخرى.
وباعتبار اللغة والمعتقدات ووسائل الإعلام والفنون، (والكلام عن الطفل)، فإن ذلك أولاً ليس مسيطراً عليه، وهو يتدفق نحو الطفل بما يرضينا ولا يرضينا. وسوف يجد الطفل نفسه من هذه البلاد، فلسطين الحديثة والمعاصرة، وكلغة وعقيدتين كجزء من البلاد العربية والإسلامية.
وليس في هذا ما يضير، ففلسطين هي كذلك، ولكنها من المهم، تبعاً للزمان والمكان، فهم معمق للتاريخ القديم الغني حضارياً، حيث إن أهم الحضارات قد نشأت هنا في الشام والعراق، ومن ثم في مصر؛ ففهم تاريخ فلسطين ضمن تاريخ سورية الكبرى أو ما اصطلح عليه ببلاد الشام، بمحيطه الهلال الخصيب، سيكون له فضائل كبرى، في فهم المكان وخصوصياته بدءاً من الطعام والشراب، مروراً بالعادات وليس انتهاء بالمعتقدات والفنون والأديان.
ثمة مسطرة تاريخية جغرافية، من بدء التاريخ حتى التاريخ العربي المشترك، مع الفتوحات، ينبغي بالنسبة لأطفال فلسطين وفتيانها وشبابها وباحثيها، من قبل التمدن في أريحا أم العشرة آلاف عام، وبدءاً بكنعان، مروراً بما جاء من أقوام، وما مرّ من تكتلات، وغزوات ونتائج ذلك على الأرض. للأسف ما زالت الدراسات التاريخية، بشكل عام، حتى نكون منصفين، محددة بالتاريخ العربي، أي أن الأطفال لا يعرفون عن ماضينا الحضاري غير أسماء بسيطة، فكأننا ندفعهم في اللاوعي، قومياً ودينياً، أن التاريخ بدأ مع فتح القدس أو البعثة النبوية، مع أن ذلك كله لا يتجاوز الـ 1440 عاماً.
أطمح، بل أحلم، بوجود نشاط تطبيقي بالاستعانة بالحاسوب، وليس ذلك بالأمر الصعب، حيث عمل آخرون عليه، يرى الطلبة الفلسطينيون، وطلبة بلاد الشام، والأطفال العرب، كل في مكانه، عن الخاص والمشترك.
تبدأ الخارطة صماء، ثم تبدأ عملية التلوين، والكتابة، والتظليل: هنا ظهرت أولى الآثار القديمة ما قبل التاريخ، فيذكر مثلاً مغارة خريطون، ومغر أو مغارات أخرى في منطقتنا، وهكذا، كلما تقدم الزمان، يتم رسم وجود الأقوام وما نتج عنها من آثار، وصولاً للتاريخ المكتوب، من الكنعانيين، حتى الفتح العربي.
ومثلاً حين نعلم تاريخ القدس، ضمن هذا الفيديو، يظهر مثلاً الكنعانيون والعموريون واليبوسيون والحيثيون...وهكذا.
ويمكن أن يواكب ذلك ويتلوه فيديوهات تعليمية حيوية، تعمق معرفتنا، وتثير تفكيرنا، حول بدء الاستعمار الحديث، وما بعد الاستقلال.. وهكذا.
ومن المهم، وفق هذا المقترح مراعاة المرحلة العمرية، كذلك كتابة التاريخ وفق هذه السردية البصرية، التي يمكن الاستفادة من الأفلام الدرامية التاريخية، والوثائقية، في إدخال الحركة والصورة فيها.
ما الذي يمكن أن يحدث؟ ماذا نتوقع؟
أظن باعتبار أننا كنا طلبة، ومعلمين، أنه ستظهر مرحلة جديدة في تعليم التاريخ في فلسطين، بشكل خاص. وهي مرحلة سيتاح للطفل فيها تأمل موقعه كفرد وجماعة وشعب وشعوب وقوميات وأديان وحضارات، بحيث ينتقل من مرحلة الحفظ، الى مرحلة التفكير، والبدء بتفكير نقدي موضوعي، يؤدي إلى إنتاج المعرفة.
سيعرف ويتعمق طلبة فلسطين زمانهم، وارتباطاته المكانية والتاريخية، وباستطاعته حسب المسطرة التاريخية أن يعرف كيف كانت فلسطين في زمن معين، كجزء من بلاد وحضارات ودول.
وخلال ذلك، وفي ظل إشكاليات لها علاقة بالصراع الدموي هنا مع الاستعمار، يمكن للطلبة النظرة الموضوعية للتاريخ، خصوصاً بكل ما يتعلق بالأديان، حيث إنه يلتبس ذلك في أذهاننا جميعاً، بحيث في مرحلة معينة، صرنا ننظر الى التاريخ والجغرافيا من منظور الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي الذي استغل مسألة الدين، فأربك اليهود وغير اليهود، وتسبب في تزوير ممنهج للتاريخ.
ويمكن بالطبع، ترك التاريخ في القرن الأخير، للصفوف الأخيرة، كي يتاح للطلبة التعمق فيها، للتمهيد لدراسة أكثر عمقا في الجامعات.
بقي أن نقول، كما أن هناك نقصاً في فهم تاريخنا القديم، هناك نقص في فهم تاريخنا خصوصاً في آخر قرنين.
هذا من ناحية. من ناحية أخرى، من المهم جداً أن يتم ذلك وطنياً وقومياً، ضمن نطاق إنساني وعالمي، باعتبارنا جزءاً من الكوكب.