أخذتنا ليلة نعناع القدس إلى أقصى خضرتنا، في مسرح الحكواتي كنّا على موعد مع خضرةٍ فلسطينيةٍ خاصة، امتلأ مدخل مسرح الحكواتي في القدس بعروق النعناع على الطاولة، وعلى الكراسي، وعلى السور المجاور.
ليلة نعناع مقدسيّ بامتياز، شهدتها مع صديقتيَّ: آية وروان، أحبٌّ المسرح في كل مكان، ولكن حين يكون مسرحاً مقدسياً؛ فهناك قصة حب أخرى.
في مسرحيته (المونودراما) يواصل حسام أبو عيشة الحفر في بحيرة الشعور القصوى داخلنا كفلسطينيين، كبشر.
عملاق المسرح الفلسطيني لا يكتفي فقط بتقطيع الألم إلى أجزاء، ورميه في وجوهنا، إنّه أيضاً يبني من القطع مساحات خضراء وشاسعة من الأمل، تأخذنا مسرحيات حسام عموماً إلى القلب، إلى القلب الفلسطيني أقصد.
في (قهوة زعترة) رائعته المسرحية السابقة، كان الأب العظيم (التمبكجي) بطلاً للمكان، صموداً وتحولات، وبطولات صامتة، وكانت القدس حزن السبعينيات، وذهوله أمام قهر احتلال يرغبُ بشدة بتدمير مقوماتها كمدينة، وكشعب أصيل، ومقدّرات طبيعية، وكان رجال القدس بمختلف فئاتهم من فدائيين ورجال دين وأطباء وطلّاب ومعلمين، وحرفيين أبطالاً لهذا المكان متوزعين على الأمكنة، وكلٌّ منهم له حكايته مع الصمود والذهول.
في (عرق النعنع) المونودراما التي شهدناها بالأمس بالقدس (وهي من إخراج جورجينا عصفور ومساعد مخرج شادن سليم  وإضاءة لرمزي الشيخ قاسم ومصممة الملابس روان ابو غوش وانتاج مسرح البسمة المقدسي) عاد حسام المسرحي إلى السجن الاحتلالي، عاد ليزور حسام الفدائي المحكوم بالسجن لست سنوات: ثلاث منها تنفيذ، وثلاث مع وقف للتنفيذ، عاد ليس حنيناً إلى الأيام الصعبة التي لا يحن إليها أحدٌ، ولكن اعتزازاً بمرحلة كفاح عظيمة خاضها الفلسطينيون المقدسيون، وغير المقدسيين ضد سجّانٍ لم يرد فقط احتلال المكان، وطرد سكّانه، بل قتل روح الناس، وتحطيم علاقتهم الطبيعية بالأشياء التي في غاية البساطة.
زرع السجناء عرق نعنع قرب حياتهم، ونما العرق بشكل مدهش، نما أخضرَ شهيّاً واسع الرائحة حرّيّفها، احتفل المسجونون بوجود عرق النعنع كمشهد أخضر مفاجئ طرد الرتابة واليأس من وجودهم، وقادتهم رمزيّته إلى قدرة الحياة على ابتداع مقاومتها، وحضورها.
اكتشف مدير السجن وجود عرق النعنع، صاح في وجوه أبطال المرحلة اليانعين: «حتى النعنع نظّمتوه»!.
سحقت أقدامه عرق النعناع، وأنهت وجوده.
وفي سجنه كانت رسائله مع الحبيبة (لطيفة) والتي صارت لاحقاً زوجته (أم بيسان) تتطاير بين مشهد وآخر، بين عبارة وأخرى، وكانت تبدو من بعيد وكأنها تلويحات مناديل من سفينة تبتعد لمدينة تبتعد، لكنها في العمق كانت تلويحات وعد باقتراب قادم، وكان (بيسان) الحلم الطفل في رأس حسام وأم بيسان ينمو لحظة بلحظة، تأكيداً للفكرة التي طالما حاربها وقاومها المحتلون، فبيسان لم يكن فقط مجرد طفل يحلم حسام ولطيفة بإنجابه، كان مدينة محتلة سرقها منا المحتلون اسمها (بيسان).
خرجنا من المسرحية أنا وصديقتيّ: آية وروان، في أيدي كل منّا عرق نعنع أخضر، أصرّت (آية خلف) الفنانة المعروفة أن نشرب الشاي بالنعناع على الدرجات بديلاً عن القهوة التي اعتادها المقدسيون والفلسطينيون بشكل عام هناك، وافقنا فوراً، وشربنا شاياً بالنعناع.
كانت مفاجأة المفاجآت، وهذه ليست من خيال كاتب، أو فنانة، في يد كل شخص يمر عنا كانت كاسة شاي يطل منها عرق نعنع، هل كانت مصادفة أم ترتيباً ذكياً نظمه عقل الفلسطيني المقاوم؟، فلرائحة النعناع قدرة فظيعة على الانتشار رغم سحق جنود الاحتلال لعروقه، وأوراقه، ملأت رائحة النعناع القدس القديمة، وكدت أتخيل السماء تمطر نعنعاً.
أحب المسرح في كل مكان، لكني في القدس أحبه أكثر، بل وأعشقُه، وأنحني أمامه، فهو المعادل للحرية القادمة من السجن، والمتشابك بحزم مع حلم العودة إلى البلاد المسروقة، وهو حق الفلسطينيين الطبيعي في البحث عن طرق للإبداع والابتكار.
وفي الباص وحدي في المقعد الأخير، كنت أسمع سؤالاً لراكب أمامي يوجهه للجالس قربه: يا زلمي، شو قصة ريحة النعنع في القدس اليوم؟