كتب رئيس التحرير: وكأن لُبنان خلق وصمّم بشكل يسمح لعود ثقاب واحد أن يُشعله، فرصاصة واحدة تُطلق من بندقية أحد الأحزاب أو حتى من بندقية مجهولة قد تدفع بالأمور إلى الانفجار وإلى شلال دم. لبنان الذي دفنّا فيه أنقى وأصفى وأنبل وأشجع الشهداء لا يُمكن إلا أن يظل ساكناً في نفس كل فلسطيني، فجزء مهم من تاريخنا ظل فيه، وحوالي نصف مليون أخ وأختٍ لاجئين لا يزالوا يحلمون يوماً في العودة منه.
التاريخ والجغرافيا وحتى الديموغرافيا اللبنانية تفرض على الفلسطيني أن يضع يده على قلبه كُلما سُمع صوت للرصاص في شوارع بيروت، أو البقاع، أو الساحل، فأصابعنا مع بيروت ستُحرق إن هي حُرقت، وأصابعنا مع بيروت سترفع إشارة النصر إن هي انتصرت.
لذا، فليسمح لنا أخوتنا اللبنانيون أن نكتب سطوراً عن حالهم وما وصلوا إليه، فالمصير مشترك، والحديث عن لبنان هو حديث عن حدود فلسطين الشمالية.
وقع اللبنانيون في بحر أزمة اقتصادية، أزمة دسمة، خلفت مزيداً من الفقراء، مزيداً من الجوع، مزيداً من المشاكل السياسية، ودفعت بهذا البلد الصغير إلى حافة الهاوية. ضربات متتالية وقعت على رأس لبنان في أقل من عامين، انفجار المرفأ، أزمة الحكومات، والاقتراب الخطر من الحرب الأهلية باشتباكات الطيونة التي خلفت قتلى وجرحى، وفتحت الباب أمام صراع ينحر الأخ فيه أخاه، وللمفارقة فإن نواة الحرب الأهلية في لبنان انطلقت من نفس المكان، ليستمر الذبح والقتل والقنص في الشوارع من عام 1975 إلى عام 1990، وذلك لحساسية المنطقة التي يمر طريق رئيسي يفصل بين أحياء ذات غالبية مسيحية وأخرى ذات غالبية شيعية، وهي نفس التركيبة الموجودة اليوم.
ولبنان كما باقي البلدان الهشة لا يلعب لوحده، بل يُلعب على أرضه، وتصفى الخلافات الإقليمية والدولية على حساب قوت أهله وأمنهم ودمائهم، حتى كاد يكفر بعض اللبنانيين بوطنهم، مطالبين بعودة الانتداب الفرنسي خلال زيارة ماكرون قبل شهور!
أطماع إسرائيل بلبنان تكاد تكونُ الأكبر في المنطقة، فهي تريد للبنان أن يظل ضعيفاً وأن تُنهك مقاومته في صراعات أهلية، بعدما فشلت في هزيمة حزب الله بعد دخوله إلى الحرب السورية المؤسفة، وهي كذلك تريد أن يدخل لبنان ضعيفاً إلى مفاوضات ترسيم الحدود، لأنه كلما ضعف لبنان هبط سقف مطالبه.
في أي صراع أو مشكلة أو حرب ابحثوا عن المستفيدين، ستجدون كل الأصابع في المشكلة اللبنانية تشير إلى إسرائيل، تل أبيب تريد لمنطقة الشمال أن تكون آمنة للأبد، ولن يحدث ذلك إلا باجتثاث حزب الله منها، كذلك فهي تريد حرباً أهلية في لبنان تُنهي الوجود الفلسطيني في المخيمات كما حدث في المخيمات الفلسطينية في سوريا، هي تريد لما تبقى من أثر على النكبة أن يُمحى.
لا يعني وجود إسرائيل في رأس هرم من يحاول هدم لبنان أن العرب كلهم أبرياء مما يجري، فسكوت المحاور العربية من السعودية ودول الخليج إلى الجزائر ودول المغرب العربي ومصر يشير إلى أن شيئاً يُطبخ بليل ضد بيروت، بذريعة اجتثاث الشيعة الذين هم حزب الله، هذا السكوت الذي يُؤكد أن الوحدة العربية مجرد شعار أكل الدهر عليه وشرب، وأن الجسد العربي مصاب في عصبه، فهو لا يشعر بأي طرف من أطرافه، وبيروت تاج ورأس العرب!
السلاح اللبناني ليس خطيراً على لبنان، بل هو لحمايته، لكن الأصابع الإسرائيلية الأمريكية وبعض العرب يسعون إلى تحويله لسلاح عصابات، تماماً كما يحوّل المجرم سكين المطبخ إلى أداة قتل وابتزاز!
بيروت مليئة بالحكماء، مليئة بأصحاب التجارب، مليئة بمن عاصروا الحرب الأهلية التي طحنتها طحناً، هؤلاء سيحسبون ألف حساب لأي رصاصة طائشة، لكن الأمر الآن يتطلب وقفتهم ونفَسَهم وهمتهم الوطنية لإطفاء أي شعلة للحرب الأهلية.
إن فتيل هذه الحرب هذه المرة هو انفجار المرفأ، ما يعني أن هذا الملف من المهم حله جذرياً وبشفافية أمام اللبنانيين، فأن يُحرق أشخاص أهون من أن يُحرق بلد بأكلمه، وأن يدفع حزب سياسي الثمن أهون من أن يدفعه اللبنانيون كلهم.
لا وقت لفرد العضلات، فالأهم الآن هو فرد الأدمغة والعقول والنيات الصادقة، هذا ما سيخرج لبنان من عتمته، أما السلاح فبقاؤه في مخازنه الآن واجب وطني.
إن حل مشكلة لبنان هي كحل مشكلة فلسطين وذلك بوحدة أحزابها واتفاقهم وتعاونهم، ولن يخاف على لبنان أحد كأهلها، ولن يتحول اللبناني الشيعي إلى إيراني، ولا المسيحي إلى فرنسي، كلهم سيبقون على أرضها، كلهم يحبونها، ولو كانت قاسية.