تنشغل إسرائيل، في مثل هذه الأيام منذ 26 عامًا، بإحياء الذكرى السنوية لاغتيال رئيس حكومتها السابق، يتسحاق رابين (4 تشرين الثاني/ نوفمبر 1995). وفيما كان الصوت الأعلى في خضم هذا الانشغال، على مدار معظم تلك الأعوام، للزاعمين أنّ هذا الاغتيال تسبّب أيضًا بقتل “السلام” مع الفلسطينيين، كون الرجل تطلّع إليه أولًا وقبل أي شيء، فمنذ أعوام قليلة بدأت الكفّة ترجح لصالح أصوات تؤكّد، من ضمن أمور أخرى، أنّه لم يكن رجل سلام، وأنّ اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير الفلسطينية استهدف أكثر شيء الدفع بمصالح إسرائيل الأمنية الإقليمية.

وفي هذا الشأن تحديدًا، يعتبر ورثته من رؤساء الحكومة في دولة الاحتلال، ولا سيما بنيامين نتنياهو، بمثابة مكمّلي طريقه.

هذا التقييم لرابين غير منحصرٍ في خصومه السياسيين، بل يشمل أقرب من كانوا محيطين به، وفي مقدّمهم مستشاره الإستراتيجي، حاييم آسا، الذي كرّر هذا العام تأكيده أنّ الهدف الأهمّ الذي كان موضوعًا نُصب عينَيْ رابين، لدى توقيعه اتّفاقات أوسلو، هو الإفضاء إلى تحسين حُظوظ إسرائيل في البقاء المادّيّ على المدى البعيد، ولم تكن في هذا الهدف أيّ اعتباراتٍ نابعةٍ من الفلسفة المرتبطة بمقاربة المهاتما غاندي. كما شدّد على أنّ أيّ تقييم مغاير بهذا الصدد مثل القول إنّ رابين هو “فيلسوف سلام” لا شخصيّة استراتيجيّة فذّة هو بمثابة تشويه لإرث هذا الرجل.

ولا تزال تتصادى أقوال أبراهام بورغ، الذي تولى منصب رئيس الكنيست الإسرائيلي (البرلمان) في أثناء المصادقة على اتفاقات أوسلو، في سياق مقابلة مع صحيفة معاريف الإسرائيلية قبل أعوام، وورد فيها أن رابين الذي أنشد “أغنية السلام” في المهرجان الذي انتهى بمقتله لم يُنجز اتفاق سلام، وإنما حاول أن يسلك سكّة مغايرة لطريق قمع الفلسطينيين وإقصائهم، غير أن الحمض النووي لديه ولدى أوسلو لم يكن سلميًا بتاتًا، وهو دأب على أن يعيد التذكير بأن موقفه إزاء القضية الفلسطينية غير مُستلّ من قرارات المحكمة العليا، ومن مقارباتٍ منظّمة بتسيلمٍ لحقوق الإنسان، ما يدلّ على أنّ “عالمه الداخلي غير مؤسّس على العدالة والشراكة وبناء الثقة والحساسية تجاه صدمات الآخر” على حد تعبير بورغ.

عند متابعة ما كتب هذا العام، لا بدّ من الالتفات إلى نقطتين: تأكيد أنّ رابين عندما ذهب إلى مسار أوسلو كان يمتلك خطة إستراتيجية، ترتبط بالحفاظ على أمن إسرائيل “دولة يهودية ذات حدود يمكن الدفاع عنها” من دون أيّ إستراتيجيا تتعلق بـ”السلام”.

ورأى في الرئيس ياسر عرفات بالأساس شريكاً في قمع المقاومة الفلسطينية وحركة حماس، وبمفهومٍ ما اعتبره سيقبل التنازل في المستقبل عن القدس وحق العودة لللاجئين وخطوط 1967 وعن المستعمرات في “الكتل الكبرى” وإلّا سيظل حاكمًا لرام الله فقط!

والنقطة الثانية أنّ رابين كان أول من استشرف ما بات يُعرف باسم “الخطر الإيراني” المتمثل في السعي إلى امتلاك قدرة نووية وللهيمنة الإقليمية.

وفي ضوء ذلك، رأى ضرورة عقد اتفاقيات تطبيع مع مزيد من دول المواجهة في أعقاب اتفاقية السلام مع مصر المبرمة في نهاية سبعينيات القرن الفائت، ومع ما تسمّى “دول الطوق الثاني”، وفقًا لعقيدة بن غوريون، في ظل تطورات عالمية غير مسبوقة، أبرزها انهيار الاتحاد السوفييتي السابق.

وينوّه القائلون بهذه الخصيصة بأن رابين كان مدركًا، في قرارة نفسه، بأن مثل هذه الاتفاقيات لا يمكن بلوغها إلا إثر سلوك طريق التسوية مع الفلسطينيين، وهو ما حدث، حيث تأدّى عن اتفاقيات أوسلو إبرام اتفاقية السلام مع الأردن، وانطلاق المفاوضات الإسرائيلية – السورية.

وفي سياقٍ متصل، ينوّه هؤلاء أنه لو كان رابين ما زال حيًّا لكان من أشدّ مؤيدي “اتفاقيات أبراهام”، على الرغم من أنها لم تُبرَم بموجب المسار نفسه الذي عُرف باسم “فلسطين أولًا”، في إشارة بليغة إلى ما حدث من تغيّرات دراماتيكية على الموقف العربي الرسمي نفسه.